نوع المستند : المقالة الأصلية
المؤلف
جامعة
المستخلص
نقاط رئيسية
أولاً: الفرق بین الهرمنیوطیقا والتأویل
ثانیاً: العلاقة بین الفلسفة وتأویلیّة النصّ
ثالثاً: الارتباط بین تأویلیّة النصّ القرآنیّ ونصّ المعصوم (ع)
رابعاً: تأویلیّة النصّ الدعائیّ للمعصوم (ع) -الصحیفة السجادیّة أنموذجاً-
الكلمات الرئيسية
فلسفة الهرمنیوطیقا وتأویلیّة النصّ -علاقة تعاند أم تواصل-
الشیخ شفیق جرادی[1]
خلاصة المقالة:
تتناول هذه المقالة بحث مسار الهرمنیوطیقا فی حاضنة الفکر الغربیّ؛ بوصفها تیّاراً تنوّعت اتّجاهاته ومقاصده إلى أنْ استقرّ أو کاد یستقرّ على وظیفة فلسفیّة جدیدة هی فهم الفهم، وتأثیراتها على العقل العربیّ والإسلامیّ عمومًا، وإسقاطاتها على التأویلیّة الإسلامیّة، ثمّ بیان الفرق بینه وبین تأویلیّة النصّ الدینیّ؛ فهل هما على نحو من الوفاق، أم إنّ العلاقة بینهما فیها من التغایر ما فیها من خصوصیّات ترتبط بطبیعة العقلیّة والموضوع؟ ثمّ بیان علاقة تأویلیّة النصّ الدینیّ بالفلسفة، والتوجّه نحو ربط تأویلیّة النصّ القرآنیّ بتأویلیّة نصّ المعصوم (ع)، والوقوف عند خصائص تأویلیّة النصّ الدعائیّ عند المعصوم (ع) من خلال أنموذج أدعیة الصحیفة السجّادیّة للإمام زین العابدین (ع).
مصطلحات مفتاحیّة:
مقدّمة:
النصُّ هو عمدة الرسالة الإسلامیّة، وهو الکلام المُنزل من عند الله -سبحانه- على قلب الرسول (ص) الذی تلقّاه ألفاظاً بحروفها، وآیات بکلماتها، وسوراً بمجمع آیاتها؛ کما تلقّاه حقیقة کانت هی المنبع الذی لم ینضب فی قول المعصوم (ع) وفعله وإقراره.
ومن هنا، لم تتوقّف التدبّرات ولا التحقیقات فی معانی النصّ، أو فی ظرف ومسالک فهمه ومعرفته؛ فنشأت -بموجب ذلک- التفاسیر بمجامیع اتّجاهاتها ومدارسها، کما نشأت قواعد أصول العلوم والمناهج التفسیریّة والتحقیقیّة فی النصّ.
ویمکن القول إنّ هذه الحصیلة من النتاج هی ثمرة تراکم وتفاعل بین إرشادات النصّ من جهة، وبین الحراک الفکریّ البشریّ من جهة أخرى. وهذا الحراک یأتی إمّا فی إطار ما تولَّد عند المسلمین، وإمّا من ما استفادوه من شعوب وحضارات دخلوا فیها، ثمّ سعوا إلى إیجاد مواضع لها عندهم عبر تبیئتها واستثمارها. وهذا هو الجانب الذی وقعت فیه المشاجرات والجدالات، وتفرّعت بسببه تیّارات واتّجاهات بین مکفِّر لمن یقول بها، ومتَّهِم بالتخلّف والتحجّر لمن عارضها وناوأها.
وهذا المشهد الذی لطالما شهدناه، وما زلنا نشهده فی تاریخ العلاقة بین النصّ والعلوم، إنّما یکشف عن أمرین مرکزیّین:
- محوریّة النصّ فی حیاة المسلمین، وأصالة موقعه عندهم، وإجماعهم على أهمّیّته، حیث یکاد یُقطَع بأنّه حتّى النقدیّون منهم لم یقلّلوا من أهمّیّة النصّ؛ وإنّما ذهبوا إلى طرق فی معالجته قد توصل إلى شیءٍ من توهین النصّ، أو إلى التخوّف من تداعیات تؤثّر فی أصالة القداسة ومصدر التجلّی فی النصّ الإلهیّ وفی المعصوم. وثمّة فارقٌ هنا بین من لا یؤمن بالنصّ أصلاً، وبین من یتبنّى أموراً تستلزم، عن قصد أو عن غیر قصد، توهیناً أو افتراضات غیر مناسبة فی حقّ النصّ وسیاقاته ومدالیله.
- إنّ المرونة التی تتولّد عن الإسلام فی ما یخصّ موقع الإنسان ودوره المعرفیّ والعلمیّ، أصیلة وقویّة؛ حیث إنّ کلّ صادر من اجتهاد أو نقد أو تحقیق أو غیره... إنّما هو فرع أصالة المرونة الإسلامیّة فی فهم العلاقة بین الثابت والمتغیّر فی أطره ونطاقاته ومساراته، وبین ما هو إلهیّ وما هو بشریّ فی حراکه وجدلیّاته واستنباطاته التی یؤخذ بها ویعوَّل علیها، وبین حقیقة الباطن وحکم الظاهر فی شؤون التشریع والمعرفة بتنوّعاتها النظریّة والعملیّة.
والجدلیّة هنا، بین الأمر الأوّل: أصالة النصّ ومعیاریّته، والأمر الثانی: المرونة الإسلامیّة وکونها نهج سلوک سُبُل السلام فی الإسلام. واللذان شکّلا قاعدة الارتکاز للتعبیر الإنسانیّ عن جموحه المعرفیّ لفهم الدین وحقائقه، وللغوص والتدقیق فی أصوله ومرتکزاته وأحکامه وقیمه. وکلّ ذلک على ارتکاز من العودة إلى النصّ، حیث کان کلّ البحث والتحقیق والکلام هو حول کیفیة التعامل مع النصّ، لا حول عودته إلیه!
وما السیاق الأخیر فی البحث الفِسَاریّ، أو الهرمنیوطیقیّ، أو التأویلیّ، على اختلافات التسمیة عند أوساط الباحثین والدارسین من المسلمین، إلّا ذاک السیاق التاریخیّ نفسه الذی أوردناه، وهو من صنف العقلیّة نفسها فی التعاطی الجدلیّ بین ما هو إلهیّ وما هو بشریّ، بل حتّى ردّات الفعل والمشاجرات المتبادلة هی -بالأعمّ الأغلب- بین متّهم هنا بالضلالة، ومتّهم هناک بالتحجّر والتخلّف.
وعلیه؛ کانت هذه المقالة مخصّصة لبحث تیار ألسنیّ وفلسفیّ أخیر اصطُلح علیه بـ"الهرمنیوطیقا"؛ وهو تیارٌ تنوّعت اتّجاهاته ومقاصده إلى أن استقرّ أو کاد یستقرّ على وظیفة فلسفیّة جدیدة هی فهم الفهم، لیشکّل حسب أصحابه، تحوّلاً فی تاریخ التفلسف جاء بعد عصر الإبستمولوجیا، ثمّ بیان الفرق بینه وبین تأویلیّة النصّ، وبیان علاقة تأویلیّة النصّ بالفلسفة، والتوجّه نحو ربط تأویلیّة النصّ القرآنیّ بتأویلیّة نصّ المعصوم (ع)، والوقوف عند خصائص تأویلیّة النصّ الدعائیّ عند المعصوم (ع) من خلال أنموذج أدعیة الصحیفة السجّادیّة للإمام زین العابدین (ع).
أولاً: الفرق بین الهرمنیوطیقا والتأویل:
کان لهذا التیّار الهرمنیوطیقیّ قصّته مع رمزیّات الفنّ ودلالات النظریّات العلمیّة والنصوص الأدبیّة والتاریخیّة -کعادة کثیر من التحوّلات الفلسفیّة الغربیّة التی تأثّرت عمیقاً بالتحوّلات الأدبیّة والفنیّة والعلمیّة- إلّا أنّ قصّته هذه سعت إلى الاستفادة عمیقاً من مدارس نقدیّةٍ فلسفیّةٍ اجترحت قراءة المنظومات الفلسفیّة الکبرى من مثل "الوجودیّة" و"الظاهراتیّة" و"الالتماعات النقدیّة الکانطیّة" التی جعلت موضوعها کلّ فلسفة أو عقل تعلیلیّ، فصارت المنظومة هی الموضوع المبحوث فیه بعد أنْ کانت هی نظام معرفة الحقائق والعلل. وبذلک انتقلت الفلسفة من متن الواقع الخارجیّ، إلى متن واقع المعنى والقول والکلام والمنهج واللغة والنظریّة أو الأطروحة.
وهذا ما جرّأ بعض الهرمنیوطیقیّین للقول: إنّ الواقع هو العلم والفلسفة والأدب؛ إذ لا واقع مُدرَک خارج السیمیائیّات والعلامات.
ومن هذه النافذة، لم یعد البحث فی الأدیان بحثاً فی حقائقها المیتافیزیقیّة؛ بل هو بحث فی علامات تشیر... وما الفلسفة أو العرفان والتشریع والأخلاق والکلام والعقائد والتفاسیر إلّا علامات من قبیل الفنّ والعمران والآثار، وقبل کلّ ذلک "النصّ الدینیّ". ولهذا لا تأتی العلامات من داخلها؛ بل من خارجها الساعی إلى النفاذ إلى دلالة العلامات، أو دلالة الدلالات. وهذا ما نظّروا له بالمعرفة من الدرجة الثانیة؛ تمییزاً لها عن النصّ نفسه أو العلامة نفسها التی هی معرفة من الداخل، أو معرفة من الدرجة الأولى.
إنّ هذا التقسیم یتیح لنا القول بالتمییز بین مصطلحین تمّ الخلط التعسّفی بینهما: الهرمنیوطیقا والتأویل؛ إذ التأویل نهج تطوریّ لحلقة التفسیر القرآنیّ أو الروائیّ، وهو أسلوب أو منهج للربط بین ظاهر النصّ وأفقه المعنائیّ المشیر إلى حقیقة ما؛ إمّا بنحو الترابط شبه الذاتیّ بین واقع الظاهر وواقع باطن الحقیقة، وإمّا بنحو الترابط الإشاریّ بین اللفظ وحقیقة ما، قد لا تنتمی إلى ذات اللفظ... وهذا الاختلاف فی المدارس التأویلیّة على الرغم من تنوّعه؛ إلّا أنّه یجتمع عند انتماء واحد إلى المعرفة الداخلیّة لحرکة معرفة النصّ وحقیقته، حیث إنّ التأویل لا یخرج عن عالم النصّ الخاصّ؛ ولذا، ینبغی أن یتجانس مع النصّ ویخرج أو یتولّد من رحم قیمه وروح مصدره.
أمّا منهج الدرجة الثانیة فهو من مَوْرد آخر، ولوظیفة أخرى، وبالتالی فالمشابهة بینه وبین التأویل لا تعنی أنّه هو، بل هو غیره. ولذا ینبغی حفظ تسمیته بالهرمنیوطیقا؛ منعاً للالتباس. فالهرمنیوطیقا تفهم النصّ هکذا؛ بخلاف التأویل والتفسیر على ضوء ارتقاباتها وسجیّتها القیمیّة التی غیّرت متن الواقع، وقلبت معادلة الحقائق واستفرغت وُسعها فی استحکامها وتسیّدها على کلّ حقیقة.
وبشیءٍ من التدقیق، یمکن أنْ نلحظ أنّ الهرمنیوطیقا هی منهج فی فهم أمرٍ ما... وتختلف مدارسها بحسب اختلاف طرق الفهم والمسلّمات المسبقة، أو الزوایا التی تفرض مداخل الموضوع. فالمرکزیّة هی لمقصد الفهم وللحیثیّة أو القبلیّة التی تنطلق المنهجیّة منها، وهی لیست للموضوع أو الحقیقة؛ بل لا مانع أخلاقیّ أو قیمیّ أو منهجیّ من ممارسة فهم لأمرٍ لا یملی هذا الفهم.
وهذا الأمر یختلف عمّا علیه الحال فی خصوص التأویلیّة عند الحاضنة الإسلامیّة. فالتأویل هو إرجاعٌ لأمرٍ یمثّل حقیقة من حقائق الوجود، أو المصیر الحیاتیّ، أو المعنى...: ﴿هَلْ یَنْظُرُونَ إِلاَ تَأْوِیلَهُ یَوْمَ یَأْتِی تَأْوِیلُهُ یَقُولُ الَّذِینَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾[2].
وعلیه؛ فإنّ الاختلاف بین الهرمنیوطیقا والتأویل فیه بعدٌ من أبعاد فلسفة اللغة؛ إذ علینا معرفة موقع اللغة من الفکر ومن الوجود. ففی فلسفة اللغة عند الهرمنیوطیقا أنّ اللغة منبع ودلالة کلّ معنى، وأنّها طوت مرحلة فلسفة الوجود المیتافیزیقیّ، کما طوت فلسفة المعرفة والإبستمولوجیا. ولذا، فإنّ مقصد النصّ هو إحالتنا على فهمٍ ما، لا على مفهوم أو وجود وحقیقة وجودیّة. وهذا ما لا تتبنّاه مدرسة التأویلیّة التی تعتبر أنّ بین اللغة والمفهوم، کما بین اللغة والوجود شیء یشبه علاقة الرقیقة والحقیقة؛ لما للّغة من وظیفة إیصالیّة نحو الحقیقة.
ثانیاً: العلاقة بین الفلسفة وتأویلیّة النصّ:
إذا ما کانت الرؤیة النظریّة تشکّل مساهمةً حسّاسة فی بناء أو تبنّی المنهج الذی یعمل على إجراء العملیّات الاستکشافیّة أحیاناً، أو الإبداعیّة أحیاناً کثیرة، فإنّ اللازم یفرض أنْ ندرس طبیعة التناسب والانسجام بین الموضوع المبحوث فیه من جهة، والمنهج من جهةٍ أخرى. ولکشف مثل هذا التناسب تلعب الفلسفة دوراً بالغ الأهمّیّة.
ومن هنا؛ نجد العلاقة الوثیقة بین الفلسفة الإسلامیّة بتنوّع مدارسها وتأویلیّة النص بتنوّع اتّجاهاته. وما مبحث الوجود الخارجیّ والذهنیّ، أو العلم والعالم والمعلوم الفلسفیّ -کما الأمثلة التی یتمّ طرحها فی أبواب الفلسفة من خلال دراسة القضایا أو المعقولات الماهویّة، والثانیة الفلسفیّة أو المنطقیّة- إلّا منابع ثریّة لبحث الصلة بین اللغة والوجود، أو اللغة والمفهوم. وهی مباحث أفضت، بالغالب الأعمّ، إلى إحالات للغة على حقائق الوجود أو الإدراکات ومراتبهما، الأمر الذی سمح بإیجاد أرضیّة مشترکة بینهما (اللغة والوجود) تقع عند "الکلمات"... فالکلمات، کما الکون المخلوق، آیات، والآیة حقیقة وعلامة تشیر إلى أصلٍ أو مبدإٍ هو مصدر الوجود وحقیقة الحقائق التی لا حقیقة مستقلّة غیرها.
ومن هذا المنطلق، نسبح مع اللغة عبر التأویلیّة فی بحر الکلمات التی لا تنفذ، لنستکشف الارتباطات والمعالیل بین الأشیاء، والحقائق، وبین عالم الکون وصِرْف الوجود. ونُبحر عمیقاً فیها لنُبدع فی بناء الذات والهویّة على محکّ التواصل والتغایر، ولنسلب عن وجه کلّ حقیقة الأسماء التی راکمناها نحن وآباؤنا، والتی لا تمّت إلى ذات الحقیقة أو إلى آثارها بصلة. ولنَثبُت من ثمّ عند الاسم بما هو قیمة جامعة لحقائق هذا الوجود والعالم.
ثالثاً: الارتباط بین تأویلیّة النصّ القرآنیّ ونصّ المعصوم (ع):
إنّ التأویلیّة عملیّة استکشاف وحرکة بناء للهویّة والانتماء والذات. ومن هنا، کان سرّها عند الله ورسوله (ص) والذین آمنوا... لأنّها إبداع خلّاق، وإیغال فی سَبْر الحُجُب لا ینقطع.
وإذا کانت الأبحاث قد تکاثرت فی الآونة الأخیرة حول بحث النصّ القرآنیّ قراءة هرمنیوطیقیّة عملت على استبعاد القراءة التأویلیّة، فإنّ استبعاداً ممنهجاً قد وقع فی حقّ سلالة النصّ القرآنیّ؛ ومن ذلک "الدعاء". وهذا الإجراء حرمنا من التعرّف إلى تأثیرات النصّ القرآنیّ فی صوغ کمالات الاستجابة الإنسانیّة. ولعلّ معرفة الاستجابة تمثّل وجهاً من وجوه معرفة النصّ القرآنیّ وفهمه فی عینه.
وعلیه؛ فإنّنا مدعوون إلى تطویر التأویلیّة الإسلامیّة من خلال ربطها بعالم الدعاء، الأمر الذی یستدعی:
- أنْ نستکشف الخطاب الدعائیّ فی نظامه العامّ ونسیجه المعرفیّ ضمن المقاصد والأهداف والمرتکزات واللغة الخاصّة.. ثمّ لنحقّق فی أهمّ المفردات المفتاحیّة للدعاء. هذا، وإنْ کان الدعاء خطاب الإنسان إلى الله -سبحانه-، فهو ینبع من إیمانٍ یعبّر عنه الداعی عبر الأدعیة، کما یُعبّر عن الوجدان والتجربة الإیمانیّین. واللافت، أنّ أمر کلّ دعاء یعود إلى هذه الحواریّة الخاصّة بین المؤمن وربِّه، علماً أنَّه یکتسی خصوصیّته من خصوصیّة المعتقد ومفرداته.
- الربط بین خصوصیّة الدعاء والمسارات العامّة للتأویلیّة الإسلامیّة، فلطالما تنعکس الآیات فی وحدات دعائیّة؛ إمّا نصّاً، وإمّا تضمّناً، وإمّا تفسیراً. والأکثر إلفاتاً هو هذه التکاملیّة فی محضر المعنى بین الآیة القرآنیّة والمقطع الحدیثیّ والوحدة الدعائیّة؛ ما یُلقی علینا مهمّة البحث عن معانی الدعاء وأسراره، بل وبناءاته التربویّة والعبادیّة والمعرفیّة فی حراک التأویل الباحث عن المقصد، أو القائم عند الالتزام والانتماء.
رابعاً: تأویلیّة النصّ الدعائیّ للمعصوم (ع) -الصحیفة السجادیّة أنموذجاً-:
تمثّل الصحیفة السجادیّة المصدر الأکثر ثراءً للأدعیة الإسلامیّة، فهی نصٌّ صادر عن معصوم، هو الإمام زین العابدین (ع)، الذی عایش زمن النصّ القرآنیّ والنبویّ عن قرب شدید. کما إنّه عایش روح هذا النصّ بما هو حقیقة مودعة فی قلوب أهل الکمال.
وقد عمل بعض المفسّرین على سَبْر معانی هذه الصحیفة، وتحلیل أبعادها النحویّة واللغویّة والبلاغیّة، إلّا أنّهم لم یَرِدوا إلیها مستنبشین قِوام خطابها وأنساقها وتراکیبها وتمازج المعانی والمؤثّرات فیها.
ونحن هنا، وإنْ کنّا نرجو أن نوفّق لمثل هذا الأمر، إلّا أنّنا لا ندّعی النجاح فیه. ولذا، فما سنقوم به هو إثارة بعض المقدّمات على طریق بحث التأویلیّة الدُعائیّة فی أنموذج الصحیفة السجادیّة.. عاملین على تسلیط الضوء على جملة أمورٍ منها:
- إنّ هذه الصحیفة الدُعائیّة تعکس روح المعنائیّة القرآنیّة على قلب أهل الإیمان. فهی بذلک تمثّل أحد الطرق التفسیریّة الوجدانیّة والتدبّریّة للقرآن الکریم. وهذا الوجه التدبّریّ للقرآن هو بمعنىً من المعانی تأویلٌ حکیم للکتاب العزیز. وعلیه، فإنّها على أقلّ التقادیر تُعطینا انعکاساً تراثیّاً لکیفیّة فهم القرآن. ومن المعلوم أنّ العملیّة التأویلیّة فی أحد أهمّ استهدافاتها إنّما تبتغی معرفة الأفق المعنائیّ للنصّ، والدعاء هو أحد النوافذ المرکزیّة المطلّة على ذاک الأفق المعنائیّ للقرآن.
- حسب الفهم الإسلامیّ، فإنّ نصّ المعصوم (ع) هو صنو حقیقة النصّ القرآنیّ. ولذا، فإنّ اکتمالات النصّ القرآنیّ فی دلالاته ومرجعیّاته وتطبیقاته وخاصیّاته؛ إنّما نحتاج فی معرفتها إلى کلام المعصوم (ع)، والصحیفة هی من ذاک المنبع الخاصّ. ومن هنا، لا یصحّ أنْ ندخل فی تأویلها خارج إطار النصّ القرآنیّ.
- حسب قواعد التأویل، فإنّ المتلقّی للنصّ والآثار الناتجة عن النصّ تمثّل أحد أهمّ الأسباب التی تربط فهمنا بمعنى النصّ. والإمام زین العابدین (ع) هو إنسان کامل (معصوم) یسترشد ویستهدی بالنصّ أحرفاً وإلهامات. وهو ببشریّته التی تتجلّى فیها الکلمات الإلهیّة یمثّل أصفى تعبیر عن أثر المعنى وطبیعته، بل وزوایاه التی قد تُخفَى عن غیره. ولذا، فإنّ اللازم أنْ نتعامل مع أدعیة الصحیفة السجادیّة بما هی کاشفة عن حقیقة الحراک الروحیّ وتأثیرات الکلمات فی وقائع الأنفس وتقلّبات القلوب.
هذا، وإنْ کان الفهم یستند -غالباً- إلى البعد المعرفیّ ببعده المفاهیمیّ، فإنّ دائرة الفهم الدینیّ الأوسع هو أنْ نستند إلى حال الذات الإنسانیّة التی تختلج مع الدعاء بکلّ ما فیها. وهذا ما یعطینا ربطاً لفهم النصّ بفهم الإنسان من حیث هو حال وحقیقة.
- لمّا کان الدعاء یمثّل مسیر الروح من بطنان الأرض إلى عنان سماء الملکوت والمعنى، فإنّ فیه ربطاً بین عالمین من الوجود عبر اللغة؛ إلّا أنّها هذه المرّة لغة خاصّة، عُبِّر عنها بأنّها "دون کلام الخالق وفوق کلام المخلوق". فما هی نسقیّة هذا الخطاب وما مکوِّناته؟ وما هی المداخل العلمیّة والمعرفیّة والاستعدادات النفسیّة والذهنیّة اللازمة للدخول فیه، من أجل مقاربته ولو بنحوٍ من تأویلیّة أوّلیّة؟
- إنّ من الاحتیاجات الفعلیّة لفهم أیّ خطاب: التوفّر على بؤرة المعنى فیه ومستویات العلاقة بین مجمل حرکة النصّ وتفاصیله من جهة، وذاک المحور المرکزیّ المسمّى ببؤرة المعنى من جهةٍ أخرى. فهل التوبة هی تلک البؤرة، أم إنّها التقوى؟ بمعنى: هل هی قیمة من القیم الإیمانیّة؟ وهل بؤرة المعنى هو الله -سبحانه- أم هو الإنسان بما هو تجلٍّ للإله؟ بمعنى: هل المحور هو مصدر الوجود ومقصد الخطاب الدعائیّ، أم إنّه مصدر الخطاب ومقصد الوجود؟ وما هی الأمور المترتّبة على أیٍّ من هذه التوجّهات المذکورة؟