الشیخ أمین الخولی.. رائد الدرس الهِرْمِنیوطیقیّ بالعربیّة

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

جامعة

نقاط رئيسية

أولاً: فکرة التطوّر تستبدّ بالخولی

ثانیاً: الخولیّ أوّل هِرْمِنیوطیقیّ بالعربیّة

ثالثاً: النصّ مرآة یرى فیه القارئ صورته

رابعاً: للدین حقیقته الخاصّة به فی الهِرْمِنیوطیقا

الكلمات الرئيسية


الشیخ أمین الخولی[1].. رائد الدرس الهِرْمِنیوطیقیّ بالعربیّة

د. الشیخ عبد الجبّار الرفاعی[2]

 

مقدّمة:

خلافاً لما یتردّد على الدوام فی بعض الکتابات المبسّطة، من أنّ المؤسّسات الدینیّة التقلیدیّة عالقة فی التاریخ، ولا یمکنها أن تتلمّس دروب التواصل مع العصر، فإنّ أبرز محاولات التجدید وأعرقها فی عالم الإسلام قد انطلق من الحواضر والحوزات المتخصّصة فی تدریس المعارف الإسلامیّة، التی احتضنتها وانخرطت فی سجالاتها ونقاشاتها ومعارکها.

ففی مصر احتضن الأزهر الشیخ رفاعة الطهطاویّ، والشیخ محمد عبده، والشیخ مصطفى عبد الرازق، والشیخ علی عبد الرازق، والشیخ محمد عبد الله درّاز، وغیرهم. وفی تونس احتضنت الزیتونة الشیخ الطاهر الحداد، والشیخ محمد الطاهر بن عاشور، وولده الشیخ محمد الفاضل بن عاشور، وغیرهم. وفی النجف احتضنت الحوزة السیّد هبة الدین الشهرستانی، والشیخ محمد جواد البلاغیّ، والشیخ محمد رضا المظفّر، والسیّد محمد تقی الحکیم، والسیّد محمد باقر الصدر، والشیخ محمد مهدی شمس الدین، وغیرهم.

   وکان غیر واحد من هؤلاء الأعلام عنواناً للضجّة فی عصره، بعد طرحه لآراء ومفاهیم وأسئلة جدیدة، تتجاوز ما هو مألوف ومکرّر. وإنْ کانوا یختلفون فی طبیعة الأسئلة ونوعها، وکیفیّة بیان الآراء، لکنّ کلّاً منهم ظلّت رؤاه تحرّک البرک الساکنة.

ویتّفق هؤلاء فی خروجهم على خطاب التبجیل والتمجید، وفهمهم واستیعابهم النقدیّ للتراث، وجرأتهم فی نقد بعض المقولات والآراء فی التراث، وسعیهم إلى البحث عن آفاق جدیدة لقراءة النصّ وتفسیره فی سیاق الواقع ومعطیاته واستفهاماته، ومحاولتهم الکشف عن شیء ممّا هو نسبیّ وتاریخیّ فی میراث المتکلّمین والفقهاء.

غیر أنّ معظم هذه المحاولات، على الرغم من جرأتها وأهمّیّتها، لم تغادر المناهج التقلیدیّة الموروثة، ولم تتبصّر الأنساق العمیقة المضمرة فی بنیة التراث، والأنماط المستترة لتولید المعنى فی طبقاته العمیقة، التی تعید إنتاج المقولات والأسئلة ذاتها. ولذلک فقد لبثت هذه المحاولات فی مدارات التطلّعات والطموحات، وإثارة بعض التفسیرات والشروح البدیلة للنصوص؛ بغیة الخروج بمواقف وفتاوى جزئیّة، تشی بتصالح المسلم مع العصر، وما یفرضه علیه واقعه الجدید.

   ومع أنّ الشیخ أمین الخولی لم یدرس فی الأزهر، وإنّما تعلّم فی مدرسة القضاء الشرعیّ، لکنّه درَّس فیه، وکانت محاضراتُه أوّل ما یُدرَّس من الفلسفة رسمیّاً فی العهد الجدید للأزهر، فبعد عودته من ألمانیا عام ١٩٢٧م، انتُدب للتدریس فی الأزهر، فألقى محاضرات على طلاب کلّیّة أصول الدین فی التاریخ العامّ لفلسفة الأخلاق، أو کما أسماها هو "الفلسفة الأدبیّة"[3]، کما اهتمّ بتجدید البلاغة وأسالیب البیان العربیّ، ودعا إلى تحریرها من حمولة الفلسفة والمنطق الصوریّ، واصطلح علیها "فنّ القول"، وکان هاجسه ربط أسالیب البیان والتعبیر بالحیاة، وتکریس الذوق الفنّی، والانفتاح على مکاسب العلوم والمعارف الحدیثة. فکشف عن الأبعاد النفسیّة للبلاغة. ودشّن أفقاً آخر فی بیان أسالیب تفسیر النصوص، وما یشوبها من ملابسات الذات والزمان والمکان والبیئة.

لقد أدرک الشیخ أمین الخولی ضرورة إصلاح نظام التعلیم الدینیّ فی الأزهر، على الرغم من أنّ تکوینه الدینیّ کان تقلیدیّاً؛ وذلک بفعل اکتشافه للأسالیب الجدیدة فی التربیة والتعلیم فی أوروبا، وتعرّفه عن قرب على نمط التعلیم الدینیّ فی الفاتیکان. وهو ما أشار إلیه بقوله: "قصدت إلى دراسة الخطط والأسالیب التی تتّبع فی دراسات اللاهوتیّة، کما نظرت فی ما حولی من الدولة الدینیّة -الفاتیکان- القائمة فی عاصمة الدولة المدنیّة -إیطالیا-، وخلال تتبّعی لهذه الدراسة اللاهوتیة فی أقطار أوروبا عشت فیها بعد ذلک؛ کألمانیا، أو أقطار زرتها مجرّد زیارة، وعمدت بعد الدراسة والتفکیر إلى الکتابة عن قضیّة الأزهر وإصلاحه"[4]. فکتب لتحدیث الأزهر بیانه الموسوم: "رسالة الأزهر فی القرن العشرین". ونشر الأزهر عام ١٩٣٦م هذه الرسالة، ثمّ تکرّرت طبعاتها لاحقاً، بعد أن نفدت الطبعة الأولى سریعاً[5]. وفی أوائل الخمسینات من القرن الماضی عاد الخولی مرّة أخرى یدعو إلى إصلاح الأزهر وتحدیث نظامه التعلیمیّ، فنشر سلسلة مقالات فی مجلّة "المصری"، غیر أنّ الأزهر لم یصمت هذه المرّة؛ کما صمت فی المرّة الأولى، فأصدرت جبهة علماء الأزهر بیاناً ورد فیه: "اعتاد الأزهر الشریف أن یسمع من حین إلى آخر أفراداً یحاولون أن ینالوا منه ومن رجاله، وکأنّما خوّلت لهم أنفسهم أنّ تعلّقهم بهذا الجبل الأشمّ یلقی فی روع الناس أنّ لهم شأناً، أو عندهم رأیاً، أو فیهم غیرة على حقّ، أو غضباً للدین، أو حرصاً على صالح عامّ، ولکنْ هیهات، فهم کناطح صخرة یوماً لیوهنها"[6]. ولکنّ الشیخ الخولی وجّه لهم نقداً شدیداً، ذکر فیه: "إنّ قصدهم النفسیّ من هذا التوجیه لیس بریئاً ولا خالصاً من الغایات المدخولة، فسبیلهم إلى هذا التوجیه والبیان سبیل غیر صادق، وتناولهم له غیر مستقیم؛ کما إنّ سیادة روح التحکّم فی فضل الله ونعمه، والاستبداد بدین الله وهدایته واضح، فإذا أفتوا فقولهم هو رأی الاسلام، وإذا حکموا فحکمهم هو حکم الله، وإذا خالف علیهم إنسان فهو یحارب الله"[7]. لکنّ علماء الأزهر لم یتوقّفوا عن مساجلته، فردّوا على نقده ببیان أیضاً، غیر أنّه لم یتراجع عن دعوته إلى إصلاح الأزهر[8].

  

أولاً: فکرة التطوّر تستبدّ بالخولی:

لقد تجاوز الشیخ أمین الخولی وجهة الإحیاء والإصلاح، التی بدأت مع الشیخ رفاعة رافع الطهطاویّ فی القرن التاسع عشر، وتواصلت فی ما بعد مع الشیخ محمد عبده، ومن تلاه؛ إذ استطاع الخولی أن یشتقّ نهجاً، یتلمّس فی ضوئه درباً مغایراً لما عرفناه من أصول ومبادئ فی قراءة النصوص الدینیّة وتفسیرها. فمع الخولی، وللمرّة الأولى، یتصدّع جدار الدرس اللغویّ والبلاغیّ التقلیدیّ، کما تنفتح الفلسفة الأخلاقیّة فی التعلیم الأزهریّ على أفق جدید. ظلّ الخولیّ مسکوناً بفکرة التطوّر، واستبدّت به هذه الفکرة إلى الحدّ الذی استند إلیها بوصفها مرجعیّة لإعادة بناء المعارف الإسلامیّة، وآداب اللغة العربیّة وعلومها. ولم یتردّد فی الدفاع عن نظریّة التطوّر الداروینیّة فی الأحیاء، وأصرّ على تبریرها ومنحها المشروعیّة، فی ضوء ما یحاکیها ویقاربها من إشارات فی "رسائل إخوان الصفا"[9]، وآثار ابن مسکویه، وابن سینا، وابن الطفیل، ممّن ألمحوا أو صرّحوا بتصنیف الموجودات فی سلم تراتبیّ، یحتلّ فیه الإنسان الذروة فی تکامله، فیما یلیه الحیوان، فالنبات، إلى أدنى مرتبة؛ وهی الجماد. وشغف الخولیّ بالتجدید إلى الحدّ الذی کان برأیه هو الثورة الکبرى فی کلّ قرن، إذ یقول: "إنّ ذلک التجدید على رأس القرون هو ذلک العمل الثوریّ الکبیر الذی تحتاجه الأمّة، کأنّما هو ثورة اجتماعیّة دوریّة"[10]

وتوسّع الخولی فی تطبیق فکرة التطوّر على علم الکلام والفقه واللغة، بل عمّمها لتشمل أبعاد الوجود البشریّ المعنویّة والفکریّة والاجتماعیّة والأخلاقیّة کافّة. وأصرّ على أنّ التطوّر هو الناموس الشامل فی الخلق والحیاة، ولیس ناموساً خاصّاً بعلم الأحیاء فقط؛ حیث یقول الخولی: "صار کلّ باحث یتصدّى لدرس شیء من ذلک؛ إنّما یتقدّم إلیه مسلّماً بعمل ناموس النشوء فیه، فی ما مضى، وفی ما هو آت، ولم یعد الباحثون یقبلون القول بظهور کائن کامل الوجود دفعة واحدة، فکرةً کان أو لغةً أو فنّاً أو حضارة... إنّ ظهور الفکرة الجیّدة یشبه فی تطوّر الحیّ ظهور صفات جدیدة فی نوع من الأحیاء تخالف الصفات القدیمة، وقوّة یقین أصحاب الفکرة الجدیدة بصحّتها وصلاحیّتها تقابل درجة قوّة الصفات الجدیدة فی الحیّ على البقاء، کما إنّ صلاح البیئة الاجتماعیّة لحیاة الفکرة الجدیدة ومعاکستها لحیاة الفکرة القدیمة تقابل حال البیئة الطبیعیّة بالنسبة إلى صفات الکائن الحیّ الجدیدة، وإنّ قوّة اقتناع أصحاب الفکرة الجدیدة بها، وترسیخهم لها فی أذهان الناس، تشبه قوّة الحیّ على إفناء منافسه وإبادته، کما إنّ اقتناع الناس رویداً بالفکرة الجدیدة وانسلاخهم من الفکرة القدیمة یشبه موت الأفراد الضعاف فی التناحر المادّیّ. وإنّ تأصّل الفکرة وثباتها فی نفوس مقتنعیها یشبه تأصّل صفات الحیّ الجدیدة فی نسله ورسوخها"[11].

وتبدو حالة الاستیهام بمعطیات العلوم الجدیدة واضحة فی توکّؤ الخولی على نظریّة التطوّر، والاستناد إلیها، بوصفها مرجعیّة شاملة، فی تبریر ضرورة تطویر اللغة وآدابها، وتجدید معارف الدین وعلومه. وهی سمة طبعت تفکیر رجال الدین والمثقّفین فی ذلک العصر، ممّن تعرفوا على العلوم الحدیثة، واکتشفوا التقدّم الغربیّ، واستند غیر واحد منهم إلى نظریّة التطوّر، لتبریر تحدیث التفکیر الدینیّ. کما تمادى بعضهم وأسرف فی توظیف فرضیّات العلم ونظریّاته وقوانینه الجدیدة فی تفسیر القرآن، مشدّداً على التوأمة بین العلم والقرآن الکریم، إلى الحدّ الذی أضحى معه النصّ القرآنیّ بمنزلة کتاب لا مضمون له خارج إطار العلم الحدیث ومفترضاته ومفاهیمه[12].

ویتّسع قانون التطوّر من منظور الخولیّ لیشمل اللغة أیضاً، مثلما یشمل الظواهر الأخرى فی الاجتماع البشریّ کافّة، فهو یرفض المواقف اللاعقلانیّة فی التعاطی مع العربیّة بوصفها استثناءً من لغات العالم؛ ولذلک لم یقبل ما یقال عن: "فضل العربیّة.. وکمال العربیّة.. وانتهاء العربیّة إلى ما لا شیء بعده"[13]. وشدّد على أنّ العربیّة لیست استثناءً من اللغات البشریّة، فکلّ لغة کائن اجتماعیّ حیّ، یحیا ویتطوّر؛ تبعاً لسنن الحیاة وتطوّرها، واللغة بطبیعتها أکثر حیویّة ومرونة وحیازةً لإمکانات تحدیث من سواها، ففیها على الدوام کلمات تموت وتندثر، وأخرى تتوالد، أو تنحت؛ لتثری معجمها، وتعزّز رصیدها التداولیّ؛ وذلک ما یوضّحه الخولی بقوله: "فاللغة من أشدّ المظاهر الحیویّة لیناً، وأقلّها تصلّباً وتحجّراً، وأطوعها للتطوّر، وقدماؤنا یدرکون هذا واضحاً، حین یتحدّثون عن تهذیب اللغة وعوامله، وحین یقرّرون أنّ الاستعمال یحیی ویمیت، ویقبح ویحسن، وحین یصفون تداخل اللغات، وما إلى ذلک من دلائل الشعور بتأثّر اللغة بالحیاة تأثّراً قویّاً"[14].

وفی لفتة بالغة الدلالة یتحدّث الخولیّ عن مأزق الفصحى، والازدواج اللغویّ بین الفصحى والعامّیّة، وکیف أنّنا نتحدّث بلغة غیر تلک التی نفکّر ونکتب ونقرأ فیها، فسعى إلى الکشف عن الجذور التاریخیّة لذلک، موضّحاً أنّ المنهج الذی اعتمده المعجمیّون الأوائل فی جمع اللغة کان فی تبنّی لغة البدو فی الصحراء العربیّة خاصّة، فیما استبعدوا کلّ کلمة تدلّ على ما هو شائع فی المدینة والحواضر المعروفة؛ ولذلک اغتنت العربیّة بکلمات البادیة، وما یدلّ على الظواهر الطبیعیّة والحیوانات والنباتات والعادات والتقالید والأدوات والأشیاء والصور والحاجات السائدة فی نمط الاجتماع القبلیّ، بینما افتقرت اللغة إلى ما هو معروف ومتداول فی المدن. وکأنّه -هنا- یلمّح إلى أنّ العربیّة ما دامت مرآة لحیاة البداوة، ومشبعةً بنمط ثقافتها، فرؤیتها للعالم ضیّقة الأفق، وإیقاع التحوّل والتغییر فیها بطیء، خلافاً للغة المدینة التی تغتنی بکثیرٍ من الألفاظ الدالّة على ما یسود حیاة الحواضر المدنیّة من أشیاء وأفکار. ومن هنا، ضاقت عربیّة القبائل البدویّة فی العصر العباسیّ عن استیعاب ما تفشّى فی الاجتماع الإسلامیّ من أشیاء وأفکار لم تعرفها البادیة من قبل، فعوّضت ذلک بالاستیراد من غیرها، واشتقاق ألفاظ جدیدة وتولیدها.

وفی نقاشه مع شیخ الأزهر[15] رفض الشیخ الخولیّ انحصار التطوّر ببعض أحکام العبادات، فذهب إلى أنّ "التغیّر والتطوّر سنّة شاملة فی الأصول: العقائد والعبادات والمعاملات، وفی هاتین الأخیرتین شریعة الإسلام هی انتخاب ما نراه أیسر عملاً وأصلح للبقاء"[16]. ولا یتردّد فی القول إنّ "تطوّر العقائد ممکن، وهو الیوم واجب؛ لحاجة الحیاة إلیه، وحاجة الدین إلى تقریره؛ حمایة للتدیّن، وإثباتاً لصلاحیّته للبقاء، ولاستطاعته مواءمة الحیاة، مواءمة لا یتنافر فیها الإیمان مع نظر ولا عمل"[17].

ویشدّد الخولیّ على رفض أیّ قراءة لا تاریخیّة للتراث، ویرى التراث؛ بوصفه محکوماً بعوامل وظروف خاصّة مولّدة له، تتناسب مع ضرورات ومشروطیّات زمانیّة-مکانیّة تفرضها کلّ حقبة تاریخیّة، وعلى هذا فهو یتغیّر ویتطوّر؛ مستجیباً لما تملیه علیه تلک المشروطیّات والضرورات.

ومن هنا، یحیل الخولیّ الخلاف بین المتکلّمین، وتغیّر الأقوال وتنوّعها فی مسائل: "الذات"، و"الصفات"، و"الکلام الإلهیّ"، و"القضاء والقدر"، و"الجبر والاختیار"، وغیر ذلک، إلى التغّیر فی البیئات والزمان والمکان. والتغیّر هو التطوّر؛ تبعاً لمفهومه[18].

وهو بذلک یتخطّى الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد فی الفقه، ویصرّ على ضرورة شمول الاجتهاد للعلوم والمعارف الإسلامیّة بأسرها. وتشدیده على أنّ تطوّر العقائد واجب یؤشّر بوضوح إلى أنّه قد تجاوز ما کان علیه سلفه وأقرانه من دعاة الإصلاح فی الأزهر.

ودعوته هذه من الدعوات المبکّرة فی دنیا الإسلام لبناء "علم کلام جدید"، حسب التوصیف المعاصر؛ ذلک أنّ علم الکلام الجدید ما هو إلاّ ضرب من الاجتهاد فی تفسیر الاعتقاد وتبریرها؛ طبقاً لما یتطلّبه کلّ عصر، بنحو تصبح فیه وظیفة علم الکلام مثلما هی حمایة إیمان الناس من الإلحاد، هی أیضاً حمایة إیمانهم من التوحّش والتشدّد والتحجّر.

وکأنّ الشیخ الخولیّ -هنا- یستعیر مفهوم "التاریخیّة" من الفلسفة والعلوم الإنسانیّة الحدیثة، لیطبّقه على مجالات التراث المتنوّعة؛ إذ یحیل مفهوم "التاریخیّة" إلى أنّ أفکار کلّ بیئة تشبهها، ففی البیئة الخصبة عقلیّاً، تزدهر الأفکارُ العمیقة الغنیّة المرکّبة، وفی البیئة الفقیرة عقلیّاً، تتفشّى الأفکارُ المبسّطة الفقیرة الهشّة. وتظلّ الأفکار على الدوام متماثلة مع بیئتها، معاصرة لها، ومشتقّة منها. وفی ضوء هذا الفهم لا یمکن امتداد الأفکار خارج سیاقاتها الزمانیّة والمکانیّة الخاصّة، وتأبیدها للعصور کافّة، على اختلاف أنماط الحیاة، وتغیّر الزمان والمکان والبیئة.

   وهو فی کلّ ذلک یصرّ على ضرورة دراسة التراث والتبصّر بمسالکه المتنوّعة؛ بل یعتقد أنّ "أوّل التجدید قتل القدیم فهماً"[19]. وکأنّه یلمّح بعبارته إلى أولئک المراهقین ممّن لا یکفّون عن التبسیط، فیلبثون عند السطح فی فهمهم للتراث، ولا یدرکون مدیاته العمیقة، ولا یرون شراکه المتشابکة، فیظنّون أنّ التجدید یتحقّق فور نسیان القدیم وتجاهله، بلا دراسة ودرایة بمجالاته ومشاغله ومقولاته. مثلما یشیر إلى أولئک الذین یعکفون على حراسة التراث وتقدیسه، فینبّه إلى أنّنا ما لم نحوّل وظیفتنا حیال التراث، من حارس للتراث إلى دارسٍ له، فلا یمکننا الخروج من أنفاق الماضی، ولا أن نکون معاصرین لزماننا.

ولعلّ اختیار الخولیّ لکلمة "قتل" تشی بأنّنا واقعون فی شراک القدیم؛ شئنا أم أبینا، وتلک الشراک لا تفتأ تتراکم باستمرار، فتحیطنا من کلّ جانب، ولا سبیل للإفلات منها من دون أن تتمّ غربلتها. ولیس معنى القتل -هنا- التدمیر والإبادة، وإنّما هو تبصّر العناصر القاتلة فی التراث؛ کی نتغلّب على تسمیمها لحیاتنا، وننجو من فتکها بنا. فالقتل کنایة عن الوعی الدقیق العمیق بمدارات القدیم، واستکشاف خرائطه، وفضاء تغلغل آفاقه فی عصرنا، وتعطیل عناصره القاتلة والممیتة لحرکتنا، وشلّها لقدرتنا على النهوض وإدارة الحاضر واستبصار المستقبل. وبوضوح لا لبس فیه یفصح الخولیّ فی موضع آخر عن مفهومه للتجدید، وأنّه لیس بمعنى اجتثاث القدیم واستئصاله بأسره؛ إذ یفسّره على أنّه: "اهتداء إلى جدید کان بعد أن لم یکن، سواء أکان الاهتداء إلى هذا الجدید بطریق الأخذ من قدیم کان موجوداً، أم بطریق الاجتهاد فی استخراج هذا الجدید بعد أن لم یکن"[20].

إنّ الخولیّ لا یدعو إلى إهدار القدیم والتفریط به، وإنّما یرید:

-       التحیین والمعاصرة لما هو قدیم؛ ببعث روح جدیدة فیه، بعد أن تحجّر؛ ممّا تراکم علیه من الماضی، وغرق فی سوء الفهم والأسئلة السیّئة والأحکام المسبقة.

-       الاجتهاد؛ بمعنى ابتکار "الجدید بعد أنْ لم یکن" وإبداعه. وهذا ما یتمیّز به عن جماعة من المصلحین فی عصره، ممّن ذهبوا إلى أنّ کلّ جدید إنّما هو استئناف وإعادة إحیاء للقدیم، بخَلْع غطاء جدید على مضمون قدیم؛ بوصف التراث مستودعاً یستوعب کلّ ما ننشده فی زماننا وفی کلّ زمان، وفقاً لما شاع وذاع من القول: "ما ترک الأوّل للآخر شیئاً".

-       استیعاب التغیّر والتطوّر وشمولهما؛ بوصفهما "سنّة شاملة فی الأصول: العقائد والعبادات والمعاملات". وهی دعوة تتخطّى -أیضاً- ما یدعو له کثیر من الإحیائیّین، لیس لأنّها تستوعب العقائد بموازاة الفقه فحسب؛ بل لأنّها لا تتوقّف فی الفقه عند المعاملات خاصّة، کما شاع التعبیر عنها بأنّها "إمضائیّة"[21]؛ وإنّما تشمل العبادات کذلک، وهو قول ربّما ینفرد به الشیخ الخولیّ؛ ذلک أنّ المعروف أنّ أحکام العبادات توقیفیّة، لا تتغیّر ولا تتبدّل ولا تتطوّر.

وعلى الرغم من أنّ الخولی لم یشرح لنا ما یریده من ذلک[22]، فإنّ الدعوة إلى تطوّر العبادات تظلّ غریبة على تفکیر المصلحین وقتئذٍ، ولا أظنّه یعنی أکثر من فتاوى تیسیر أداء الفرائض العبادیّة وتسهیلها، وتوسیع مفهوم نفی العسر والحرج؛ لیستوعب حالات ومواقف لم تکن تُصنّف من مصادیق العسر والحرج عند الفقهاء قبل ذلک.

 

ثانیاً: الخولیّ أوّل هِرْمِنیوطیقیّ بالعربیّة:

تظهر فرادة الشیخ أمین الخولی فی محاولته الرائدة بتوطین الهِرْمِنیوطیقا والمناهج الجدیدة فی تفسیر النصوص الدینیّة، فی المجال التداولی العربیّ. فبعد استقراء وتتبّع، یمکن القول إنّ الخولیّ هو أوّل هرمنیوطیقیّ بالعربیّة، وربّما فی عالم الإسلام؛ إذ لا أعرف أحداً سبقه إلى ذلک.

لقد لاحظت ذلک منذ ربع قرن، حین کنت أدرّس "الاتّجاهات الجدیدة فی التفسیر" لمجموعة من تلامذتی فی الحوزة، واطّلعت على التعقیب الذی کتبه على مقالة "التفسیر" فی "دائرة المعارف الإسلامیّة"، فوجدته یتحدّث عن أفق مختلف ومنهج بدیل لتفسیر النصّ القرآنیّ وتأویله، فی ضوء أدوات ومفاهیم جدیدة، أحسبه یستعیرها من الهِرْمِنیوطیقا الألمانیّة. لقد التحق أمین الخولی فی شبابه إماماً بالمفوضیّة المصریّة فی روما، وفی وقت لاحق ببرلین فی ألمانیا[23]. وعند عودته من ألمانیا سنة ١٩٢٧م باشر التدریس فی الأزهر. ویبدو أنّ مکوثه فی ألمانیا أتاح له فرصة التعرّف على الهِرْمِنیوطیقا ودراستها، وهو ما تجلّى فی حدیثه عنها وتقدیمها بإیجاز ووضوح. ومعروف أنّ الهِرْمِنیوطیقا فی العصر الحدیث ألمانیّة المنشإ والمسیرة، فمع شلایرماخر نهایة القرن الثامن عشر تبلور مفهوم مختلف للهرمنیوطیقا فی العصر الحدیث[24]، وتطوّر هذا المفهوم مع ویلیام دلتی، ومارتن هیدغر، حتى بلغت أوج تطوّرها مع هانز جورج غادامیر تلمیذ هیدغر. مع أنّ بعض نصوص الهِرْمِنیوطیقا لم تترجم للعربیّة؛ إلاّ بعد ذلک بعشرات السنین.

وهو ما حدث مع الشیخ محمد مجتهد شبستری، الذی ذهب إلى ألمانیا، بعد رحلة الشیخ أمین الخولیّ بنصف قرن تقریباً؛ بوصفه إماماً للمرکز الإسلامیّ فی هامبورغ، فتعلّم الهِرْمِنیوطیقا بالألمانیّة هناک، لیعود إلى إیران مبشّراً بالهِرْمِنیوطیقا، ومؤلّفاً وشارحاً لها بالفارسیّة.

لقد ظهرت کتابات هرمنیوطیقیّة متعدّدة بالعربیّة فی فترات لاحقة، غیر أنّها انشغلت بتطبیقاتها فی النصوص الأدبیّة، وتوظیفها بوصفها أداة فی النقد الأدبیّ. لکنّ أمین الخولی لم ینفرد بریادته للکتابة والتعریف بهذا الفنّ فقط؛ بل بادر -أیضاً- إلى توظیفه فی تفسیر القرآن خاصّة، کما أسّس مختبراً للدراسات الأدبیّة والهِرْمِنیوطیقیة یضمّ جماعة من تلامذته؛ مثل: محمد أحمد خلف الله، وعائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ"، ومحمد العلائی[25]، وغیرهم. واشتهرت هذه الجماعة باسم "الأمناء"[26].

وقد قدّمت جماعة "الأمناء" کتابات شدیدة الإثارة، أضحى أحدها من عناوین الضجّة فی الحیاة الثقافیّة العربیّة فی القرن العشرین[27]. وهو کتاب "الفنّ القصصیّ فی القرآن الکریم"، الذی کان رسالة دکتوراه تقدّم بها محمد أحمد خلف الله، قبل سبعین عاماً تقریباً، بإشراف أمین الخولی، لکنّ لجنة المناقشة رفضتها، وحجبت الدکتوراه عن کاتبها[28].

وکان مدخل أمین الخولی لتحدیث مناهج تفسیر القرآن الکریم هو توظیف المناهج الحدیثة فی دراسة النصوص الأدبیّة وتفسیرها ونقدها، وتعمیمها للنصّ القرآنیّ؛ ولذلک دعا إلى ما أسماه: "التفسیر الأدبیّ للقرآن"؛ مستنداً فی تبریر دعوته إلى هذا النوع من التفسیر، إلى أنّ أسلوب تعاطی العرب مع هذا النصّ کان أدبیّاً؛ "لأنّ العربیّ القحّ، أو من ربطته بالعربیّة تلک الروابط، یقرأ هذا الکتاب الجلیل، ویدرسه درساً أدبیّاً؛ کما تدرس الأمم المختلفة عیون آداب اللغات المختلفة. وتلک الدراسة الأدبیّة لأثر عظیم کهذا القرآن، هی ما یجب أن یقوم به الدارسون أولاً، وفاءً بحقّ هذا الکتاب، ولو لم یقصدوا الاهتداء به، أو الانتفاع بما حوى وشمل؛ فالقرآن کتاب الفنّ العربیّ الأقدس، سواءً أنظر إلیه الناظر على أنّه کذلک للدین أم لا"[29].

ویبتنی منهج "التفسیر الأدبیّ للقرآن" على تفسیر الآیات موضوعیّاً، فی سیاق موضوعاته، ولیس تفسیرها حسب ترتیبها فی سور القرآن "فصواب الرأی -فی ما یبدو- أن یفسّر القرآن موضوعاً موضوعاً، لا أن یفسّر على ترتیبه فی المصحف الکریم سوراً أو قطعاً"[30].

ویصنّف المفسّر الآیات تبعاً لموضوعاتها، ویتعرّف على مناسبات نزولها، والسیاق الذی وردت فیه، والدلالات الحافّة بها؛ بغیة اکتشاف وحدتها العضویّة، والمنطق الداخلیّ الذی تنتظم فیه، وشبکة الدلالة المنبثّة فیها، وما یمکن أن تولّده من مفاهیم ومعانٍ مشترکة.

ویشرح الخولیّ ما ینشده فی تفسیره الأدبیّ، فیؤکّد أنّه یتمحور حول بعدین؛ هما:

-       دراسة حول القرآن.

-       دراسة القرآن ذاته.

ویعنی بالدراسة حول القرآن، استکشاف الثقافة السائدة فی عصر الوحی، ونمط الاجتماع العربیّ فی عصر النزول، وطبیعة الحیاة الاجتماعیّة وقتئذٍ، وما یسودها من ظواهر ذات صلة بالمکان والزمان والبیئة؛ سواء أکانت مادّیّة أم معنویّة، ودراسة کلّ ما یتّصل بالذوق العربیّ، وأسالیب التعبیر، وأشکال تلقّی الکلام المتعارف فی المجتمع وفهمه؛ أی کیف تلقّاه المشافَهون به وفهموه فی بیئتهم وثقافتهم وذوقهم ومشکلات واقعهم[31]؛ بمعنى أنّ الخولیّ أراد أنْ یقرأ النصّ "قراءة تزامنیّة"، تضیء تفسیره فی عصرنا، عبر اختراق الطبقات المتراکمة من الأحکام المسبقة وسوء الفهم، ممّا راکمه المفسّرون وغیرهم من شروح وتأویلات وقراءات، تنتمی کلّ قراءة منها إلى زمان المفسّر ونمط فهمه وثقافته وأحکامه المسبقة، ولا تحیل بالضرورة إلى مفهوم النصّ القرآنیّ، بالمعنى الذی تلقّاه المخاطبون به فی عصر النزول. إنّه یحاول صیاغة فنّ لفهم القرآن، ینشد إیقاظ المعنى المحتجب فیه، والکشف عنه، بتفکیک ونزع ما علّق به مِنْ مدلولات تدفّقت متوالیة بمرور الزمان.

وأمّا البعد الثانی لتفسیره الأدبیّ؛ وهو دراسة القرآن ذاته، فهو یرید به شرح الکلمات، وبیان معانی المفردات، والکشف عن طبیعة حیاة الألفاظ وتطوّر دلالتها عبر الزمان، ومعرفة مدیات التأثّر والتأثیر المتبادل بین العربیّة وغیرها من لغات المجتمعات المسلمة، وما اصطبغت به العربیّة فی عصور ازدهار وانحطاط الحضارة الإسلامیّة، وأثر الزمان فی صیروة المعانی وتحوّلاتها، والتعرّف على مدى تأثیر کلّ ذلک فی تفسیر القرآن. وهنا ینبّه الخولی إلى أنّه "من الخطإ البیّن أن یعمد متأدّب فی فهم النصّ القرآنیّ الجلیل فهماً لا یقوم على تقدیر تامّ لهذا التدرّج والتغییر الذی مسّ حیاة الألفاظ ودلالتها"[32].

ویستند الخولی فی تفسیره إلى البعد النفسیّ، ففی ضوء اهتمامه باکتشاف صلة البلاغة والأدب بالنفس الإنسانیّة، والوشیجة العمیقة التی تربط بینها، وکیف إنّها ترجمة لما یجیش فی النفس، فقد تحدّث عن الإعجاز النفسیّ للقرآن، الذی ینبثق عن التفسیر النفسیّ، وبیان ما یحدثه القرآن من أثر بالغ فی النفس البشریّة، وطبیعة تذوّق هذا النصّ والتفاعل معه. وشدّد على ضرورة الاستعانة بعلم النفس فی دراسة ذلک وتحلیله؛ ذلک أنّ "فهم الاعجاز الفنّیّ بالمعانی النفسیّة، یحوج إلى تناول القرآن بتفسیر نفسانیّ"[33]. وقد حدّد أنّ مفهوم "الإعجاز النفسیّ لبلاغة القرآن الکریم، بمعنى أثره العظیم على النفس الإنسانیّة ووقعه علیها وفعله فیها"[34].

وینظر الخولی إلى التفسیر النفسانیّ بوصفه الدرب الذی یخلّص التفسیر من الادّعاء والتمحّل، فهو لا غیر یضیء لنا أبعاداً هامّة فی بنیة النصّ القرآنیّ، ویخرجنا من سوء الفهم المکرّر، لتعلیل ما یسود المصحف من سمات وخصائص بیانیّة. ویلخّص الخولی رؤیته قائلاً: "فبالأمور النفسیّة لا غیر، یعلّل إیجازه وإطنابه، وتوکیده وإشارته، وإجماله وتفصیله، وتکراره وإطالته، وتقسیمه وتفصیله، وترتیبه ومناسباته. وما قام من تعلیل هذه الأشیاء وغیرها على ذلک الأصل فهو الدقیق المنضبط، وما جاوز ذلک فهو الادّعاء والتمحّل، أو هو أشبه شیء به"[35].

لکنّ الشیخ الخولی تنبّه مبکّراً إلى خطإ الزعم بسبق القرآن لاکتشافات العلم ومکاسبه، أو الاشتغال على إسقاط هذه الاکتشافات على الآیات الکریمة، وحذّر من خطورة الإسراف فی توظیف نتائج العلم الحدیث فی التفسیر، وکیف ینتهی ذلک إلى إهدار معانی القرآن، وهدفه المحوریّ فی هدایة الناس إلى التی هی أقوم؛ إذ یشرح ذلک قائلاً: "وثمّت معنى بعید، قد سبقت إلیه أوهام قوم فی هذا العصر، فآثرت أنْ أنفی القصد إلیه هنا، أو التعویل على شیء منه... ذلک هو استخراج قضایا علم النفس ونظریّاته من القرآن؛ تدعیماً للزعم بأنّه یتضمّن کلّ شیء... ولا نناقش هؤلاء المسرفین هنا، وإنّما ننفی أنّا نرید إلى شیء مِنْ هذا فی تبیّن الإعجاز وتفهّمه. فنحن ندعُ علماء النفس، فی تجاربهم العلمیّة، ومشاهداتهم الواقعیّة، أو تأمّلاتهم النظریّة ... ولا نرى سبق القرآن إلیه، أو تقدّمه على الأجیال بأصله، وما إلى ذلک، بل نتلقّاه منهم لنعتمد علیه من بیان الوجه النفسیّ للإعجاز"[36].

لو تدبّرنا هذا البیان الدقیق الواضح للخولیّ لما استهلکنا جهوداً وزمناً وأموالاً هائلة فی الإصرار على سبق القرآن لما جاء به العلم والمعرفة الحدیثة، والإصرار على تقویل الآیات القرآنیّة ما لا تشی به فی مجالات العلوم الطبیعیّة والإنسانیّة.  

 

ثالثاً: النصّ مرآة یرى فیه القارئ صورته:

لم یقتصر الخولی على علم النفس فی الدعوة إلى توظیفه فی التفسیر؛ بل رأى ضرورة الانفتاح على علم الاجتماع والعلوم الإنسانیّة، وبخاصّة علوم التأویل الحدیثة، فی ما ینشده من تفسیر.

ولعلّنا لا نجانب الصواب حین نقول: إنّه استقى رؤیته الجدیدة للتفسیر من الهِرْمِنیوطیقا الألمانیّة. وهو ما تجلّى بوضوح فی حدیثه عن "أفق المفسّر"، فلم تعد عملیّة التفسیر فی مفهومه تلقّیاً سلبیّاً صامتاً للمفسّر، وإصغاءً من المفسّر لما یملیه علیه النصّ الذی لا دور فیه للمفسّر سوى الکشف عن المعنى الکامن فی العبارات؛ وإنّما أصبح التفسیرُ فی رأی الخولیّ عملیّة إنتاج متبادلة للمعنى، یشترک فیها المفسّر مع النصّ. وذلک ما شرحته الهِرْمِنیوطیقا الحدیثة، بوصفها "فنّاً للفهم"[37]، أو قراءةً للقراءة، أو فهماً للفهم، أو تفسیراً لکیفیّة تلقّی المفسّر القارئ للنصّ، وطریقة إنتاجه للمعنى المقتنص منه، فی ضوء: أفق انتظاره، ورؤیته للعالم، وإطار ثقافته، ومسلّماته وأحکامه المسبقة. وبذلک یصبح التفسیرُ لدى الخولیّ مقاربةً هِرْمِنیوطیقیّة للنصّ.

وقد تحدّث الخولیّ عن هذه الفکرة بوضوح فی قوله: "إنّ الشخص الذی یفسّر نصّاً إنّما یلوّن هذا النصّ -ولا سیّما النصّ الأدبیّ- بتفسیره له وفهمه إیّاه؛ إذ إنّ المتفهّم لعبارةٍ هو الذی یحدّد بشخصیّته المستوى الفکریّ لها، وهو الذی یعیّن الأفق العقلیّ الذی یمتدّ إلیه معناها ومرماها، یفعل ذلک کلّه وفق مستواه الفکریّ، وعلى سعة أفقه العقلیّ؛ لأنّه لا یستطیع أن یعدو ذلک من شخصیّته، ولا یمکنه مجاوزته أبداً... فلن یفهم من النصّ إلاّ ما یرقى إلیه فکره، ویمتدّ إلیه عقله، وبمقدار هذا یتحکّم فی النصّ، ویحدّد بیانه"[38].

وربّما اقتبس أمین الخولیّ تعبیر "یلوّن النصّ" من التعبیر المشهور للمتصوّف الجنید البغدادی[39]: "لون الماء لون الإناء"[40]؛ وذلک یؤشّر إلى الأهمّیّة الفائقة لنصوص المتصوّفة والعرفاء، وطرائقهم فی تبصّر واکتشاف ما لبث مجهولاً خارج فضاء مفهومهم للحقیقة الدینیّة، وتجربتهم الروحیّة، ومناهج قراءتهم للنصّ، خارج أسوار أصول التفسیر والفقه الموروثة.

ومثلما یصطبغ الماء بلون الإناء، یؤشّر الخولی فی تحلیله للکیفیّة التی یغدو فیها النصّ مرآة تنعکس فیها ألوان صورة المفسّر، وأحکامه المسبقة، لیتشکّل معناه فی ضوء ما یرسمه أفق انتظاره، فیشیر إلى ذلک قائلاً: "فهو فی حقیقة الأمر یجرّ إلیه العبارة جرّاً، ویشدّها شدّاً؛ یمطّها إلى الشمال، وحیناً إلى الجنوب؛ وطوراً یجذبها إلى أعلى، وآونة ینزل بها إلى أسفل؛ فیفیض علیها فی کلّ حالة من ذاته، ولا یستخرج منها إلاّ قدر طاقته الفکریّة واستطاعته العقلیّة؛ وما أکثر ما یکون ذلک واضحاً حینما تسعف اللغة علیه، وتتّسع له ثروتها، من التجوّزات والتأوّلات، فتمدّ هذه المحاولة المفسّر، بما لدیها من ذلک.. وإنّ المستطاع منه فی اللغة العربیّة لکثیر وکثیر..."[41].

وبهذا یتّخذ الخولی المقاربةَ الهِرْمِنیوطیقیّة مرجعیّة فی تقویم اتّجاهات التفسیر القرآنیّ المتنوّعة، ولا یستثنی من ذلک أیّ شکل من أشکال التفسیر، فسواء أکان التفسیر عقلیّاً اجتهادیّاً، أم نقلیّاً مرویّاً، أم غیر ذلک، تحضر بصمة ذات المفسّر لتطبع تفسیره، مهما حاول أن یتجرّد ویکون موضوعیّاً ومحایداً. حیث یقول الخولیّ: "على هذا الأصل وجدنا آثار شخصیّة المتصدّین لتفسیر القرآن تطبع تفسیرهم له فی کلّ عهد وعصر، وعلى أیّ طریقة ومنهج، سواء أکان تفسیرهم له نقلیّاً مرویّاً، أم کان عقلیّاً اجتهادیّاً"[42].

ویرفض الشیخ الخولی رأی من یستثنی التفسیر الروائیّ من ذلک، بوصفه لا یعدو أن یکون سوى بیانٍ لمعنى الآیات فی ضوء الأحادیث المرویّة، وفی مثل هذا التفسیر لا یتدخّل المفسّر عادة. فیرفض الخولی حیاد المفسّر الروائیّ فی هذا الصنف من التفسیر، ویدلّل على أنّ انتخاب المفسّر لروایات دون سواها یؤشّر إلى أفق انتظاره، وإطار تفکیره، ومسلّماته، وأحکامه المسبقة، وهذا هو سبب الاختلاف الواسع فی التفاسیر الروائیّة، واستناد کلّ مفسّر إلى نوع معیّن من الروایات المفسِّرة لکلّ آیة وبیان مضمونها. حیث یقول الخولی: "ولعلّ هذا الأثر الشخصیّ لا یبدو واضحاً فی التفسیر المرویّ لأوّل وهلة، ولکنّک تتبیّنه إذا ما قدّرت أنّ المتصّدی لهذا التفسیر النقلیّ إنّما یجمع حول الآیة من المرویّات ما یشعر أنّها متّجهة إلیه، متعلّقة به، فیقصد إلى ما تبادر لذهنه من معناها، وتدفعه الفکرة العامّة فیها، فیصل بینها وبین ما یروى حولها فی اطمئنان... وبهذا الاطمئنان یتأثّر نفسیّاً وعقلیّاً حینما یقبل مرویّاً ویُعنى به، أو یرفض من ذلک مرویاً -إن رفضه- ولم یرتح إلیه... ومن هنا، نستطیع القول إنّه حتى فی التفسیر النقلیّ وتداوله، تکون شخصیّة المتعرّض للتفسیر هی الملوّنة له، المروّجة لصنف منه"[43].

ویشیر الخولی إلى أثر نوع ثقافة المفسِّر والإطار المعرفیّ لثقافته فی تلوین ما یفسّره بتلک المعارف، فمثلاً لو کان المفسّر متکلّماً، فإنّ تفسیره یکتسی صبغة کلامیّة، ولو کان فقیهاً یکتسی تفسیره صبغة فقهیّة، ولو کان متصوّفاً یکتسی تفسیره صبغة صوفیّة ... وهکذا.

وکأنّ الخولیّ یقرّر قاعدة کلّیّة فی التفسیر، لا تستثنی أیّ شکل من أشکال التفسیر من التحرّر من بصمة المفسّر وأحکامه السابقة وفهمه الخاصّ؛ بل حتّى تفسیر القرآن بالقرآن یخضع فیه المفسّر إلى ذلک، ولیس بوسعه -حین ینتخب تفسیر آیة بآیة قرآنیّة تفصح عن مضمونها- أن یتخلّص ممّا هو مستتر وغیر مرئی من قبلیّاته وقناعاته.

کما یتحدّث الخولیّ عن التأثیر المتبادل بین العلم الذی یتخصّص به المفسِّر وعملیّة التفسیر، فمثلما یکتسی التفسیر بلونِ تَخصّص المفسِّر، یتفاعل ذلک العلم، فیثرى ویتکامل، لیکتسی طوراً جدیداً بعد توظیفه فی حقل التفسیر، حیث یقول الخولیّ: "إنّ التفسیر على هذا التلوین یتأثّر بالعلوم والمعارف التی یلقى بها المفسّر النصّ، ویستعین بها فی استجلاء معانیه، کما إنّ وصل هذه العلوم بالتفسیر یکسب هاتیک العلوم نفسها ضرباً من الثروة، بقدر أثره فی تاریخها... وقد جاءک ما فعل الرازی فی تفسیره... فهذا ومثله تلوین کلامیّ للتفسیر، یضفی على القرآن من منهج علم الکلام، ویوجّه تفسیره...کما تجد تلویناً فقهیّاً للتفسیر، وآخر بلاغیّاً، وغیرهما قصصیّاً..."[44].

ولا أحسب الشیخ الخولیّ یورّطنا بنسبیّة الفهم؛ وإنّما أراه یحاول تحریر فهم النصّ القرآنیّ من سوء الفهم وأخطاء آراء المفسّرین، الذین ظلّوا على الدوام بشراً، ینتمون إلى زمانهم وبیئاتهم وثقافاتهم ونمط رؤیتهم للعالم، وهم أنفسهم قد تعاطوا جمیعاً مع تفسیرات المفسّرین من قبلهم بوصفها آراء نسبیّة، تخضع لمشروطیّات اللغة والزمان والمکان، ولیست فهماً أبدیّاً یتعالى على أیّ مشروطیّة تاریخیّة.

ویبدو لی أنّ اطّلاع الخولی قد توقّف عند شلایر ماخر وأتباعه فی القرن التاسع عشر، ولم یشأ، أو لم تسمح له ظروفه، أن یتعمّق فی استلهام الاتّجاه الوجودی للهِرْمِنیوطیقا، الذی أضحت عملیّة التفسیر تبعاً له "حدثاً أنطولوجیّاً"؛ کما شرحها هیدغر، وتلمیذه غادامیر.       

رابعاً: للدین حقیقته الخاصّة به فی الهِرْمِنیوطیقا:

    أودّ أن أنبّه إلى أنّ الموقف الارتیابیّ من الهِرْمِنیوطیقا غیر مفهوم[45]، فضلاً على أنّه غیر مبرّر؛ ذلک أنّ الهِرْمِنیوطیقا سواء أکانت فنّاً، أم علماً، أم اتّجاهاً، أم منهجاً، أم أداةً للفهم، هی لیست إلاّ ضرورة یفرضها وضع التراث فی سیاقه الزمانیّ المکانیّ الثقافیّ الخاصّ، وهی تبوح بأنْ لیس ثمّة فهمٌ نهائیٌ للنصّ، فکلُّ قراءة له تاریخیّة مشتقّةٌ من عصر القارئ، ونظام إنتاج المعنى فی عالمه، ورؤیته للعالم، وأفق انتظاره، وأحکامه المسبقة.

وهنا أشیر إلى أنّ أصول الفقه وقواعده وأصول التفسیر، وغیرها من مناهج لتفسیر النصوص الدینیّة فی الاسلام؛ هی کلّها معارف أنتجها المسلمون فی الماضی، فی سیاق توظیف شیء من معارف الیونان ومنطقهم، والإفادة مِنْ شیء مِنْ معارف أخرى استقوها من مدارس الاسکندریّة وغیرها؛ أی إنّ مناهج تفسیر النصوص الدینیّة فی الإسلام لیست إلاّ أدوات فهم وتفسیر نسبیّة تاریخیّة، ولدت استجابة لحاجات أملتها ضرورات دینیّة اجتماعیّة ثقافیّة سیاسیّة زمنیّة، وهی لیست نصوصاً مقدّسة لا تاریخیّة.

وکذلک الهِرْمِنیوطیقا، هی -أیضاً- نتاج للعقل ومعطى لتراکم الخبرة البشریّة فی فهم العالم وتفسیره، فلماذا یصیر تطبیقها فی حقل النصوص الدینیّة فی الإسلام إثماً، ویصبح تعاطی قواعدها ومفاهیمها وأدواتها فی فهم الدین محرّماً، فینضب النصّ ویستنزف بالتکرار المزمن لمعنى واحد، مشتقّ من الماضی؟ لکنْ ما تنجزه الهِرْمِنیوطیقا هو: إیقاظ النصّ، وتحیینه واستنطاق صمته؛ کی یتحدّث إلینا فی سیاق جدید، یتمثّل عصرنا، ویستجیب لأفق انتظارنا. فالهِرْمِنیوطیقا مسعى دائم لإعادة إنتاج المعنى، وإضاءة المعنى المحتجب، وإشراق المعنى فی نصّ تختبئ فی طبقاته طاقات المعنى، وبعث روح جدیدة فی المعنى.

إنّ الهِرْمِنیوطیقا -کما یشرحها غادامیر؛ تبعاً لأستاذه هیدغر- هی تلاحم الآفاق: أفق المؤلّف مع أفق القارئ، وأفق زمان إنتاج النصّ مع أفق زمان تلقّیه، أو هی تجلّی النصّ وجودیّاً للقارئ، أو هی حدث أنطولوجیّ، أو البنیة الأنطولوجیّة لنمط کینونة الکائن فی العالم، أو الطور الوجودیّ للقارئ. یقول غادامیر: "وفی الواقع، یکون أفق الحاضر فی حالة تشکُّل مستمرّة؛ لأنّنا نختبر أحکامنا المسبقة باستمرار. والجانب المهمّ من عملیّة الاختبار هذه یتجسّد فی مواجهتنا المستمرّة للماضی، وفی فهم التراث الذی ننحدر منه. فلیست هناک آفاق منفصلة للحاضر فی ذاته، أکثر ممّا هنالک آفاق تاریخیّة یجب اکتسابها. والفهم دائماً انصهار تلک الآفاق التی یُفترض أنّها موجودة بذاتها. ونحن متآلفون مع قوّة هذا النوع من الانصهار من الأزمان المبکرة على نحو رئیس، ومن ملاحظاتها الساذجة عن نفسها وعن إرثها. إنّ عملیّة الانصهار هذه تکون، فی تراث ما، عملیّة مطّردة باستمرار، فیتّحد عندها القدیم والجدید دائماً فی شیء ذی قیمة حیّة، من دون أن یُمنح أحدهما الصدارة من الآخر صراحة"[46].

ویقول فی موضع آخر من الکتاب نفسه: "فما یمثّل جزءاً من أجزاء الفهم الحقیقیّ هو أنّنا نستعید مفاهیم ماضٍ تاریخیّ بطریقة تکون فیها هذه المفاهیم متضمِّنة فهمنا لها. وهذا ما سمّیته سابقاً بـ «انصهار الآفاق»"[47].

وتحذّرنا الهِرْمِنیوطیقا من أنّ الجمود على المعنى المشتقّ من أفق الانتظار القدیم یعنی إهدار السیاقات الجدیدة، وأفق الانتظار الراهن، المختلف بالضرورة عن الماضی؛ إذ إنّ المهمّ لدى القارئ فی ما یقرأ هو أن یحقّق ذاته ویکون هو؛ بمعنى أنّه یفتّش على الدوام عن ذاته فی ما یقرأ. فالنصّ هو مرآته التی تعکس ما یقوله: وجوده، ورؤیته للعالم، ومحیطه، وخبرات حیاته، وما تنشده أحلامه.

وتفصح الهِرْمِنیوطیقا عن مهمّتها حیال النصّ الدینیّ بأنّها، وعد بإنجاز معنى تتحقّق من خلاله أُلفة مع النصّ؛ فلحظة نلتقیه کأنّنا نلتقی أنفسنا، وکذلک هی أُلفة مع عالمنا، وتصالح مع النصّ، وبشارة تنجز فی ضوئها استجابة مفسّر النصّ لروح عصره، ورهانات عالمه، من خلال فضح سوء الفهم، والکشف عن کلّ ما یکتنف عملیّة التفسیر، من: الأنساق المضمرة، وأنظمة إنتاج المعنى، والأحکام المسبقة، والأسئلة السیّئة، والأجوبة الهشّة، وأخطاء الفهم.

ومعنى أن تصبح النصوص الدینیّة مألوفة لنا، هو أن یواکب إیماننا حیاتنا، وتواکب حیاتنا متطلّبات زماننا؛ وإنّما یتحقّق ذلک لأنّ فی کلّ نصّ هامشاً حرّاً مفتوحاً للقراءة الجدیدة، وهو ما یمنح هذا النصّ إمکانات تخطّی المسافات، وعبور غربة الزمان، وتحیینه فی مختلف العصور. ذلک هو سرّ أبدیّة النصوص المقدّسة، والذی لولاه لاختفت هذه النصوص فور اغترابها عن زمانها.

وکذلک تنشد الهِرْمِنیوطیقا تحریر النصوص الدینیّة من التفسیر الفاشی المتوحّش، الذی لا یمحق جمال الدین ورحمته وسلامه فقط؛ بل تتوالد من رحمه موجة إلحاد تقوّضه من داخله!

لم تعد "الحقیقة" فی الهِرْمِنیوطیقا مختزلة فی الحقیقة العلمیّة فقط،کما یشرح ذلک غادامیر، بل إنّها ترى للدین حقیقته الخاصّة به، أو هو تجربة للحقیقة، وکذلک للفنّ حقیقته الخاصّة به، أو هو تجربة للحقیقة أیضاً. وفی ضوء ذلک تعود للحقیقة الدینیّة راهنیّتها، بعد أنْ أصبحت الهِرْمِنیوطیقا أفقاً جدیداً لتفسیر الدین، بوصف الحقیقة فی کلٍّ من العلم والفنّ والدین هی حقیقة، لکنْ حسب کلّ واحد منها. ولذلک لم یعد حضور الدین طارئاً فی الحیاة، ولا ممثّلاً لمرحلةٍ یعبرها الإنسان لحظة ینتقل إلى عصر العلم؛ وإنّما یظلّ الدین تجربة للحقیقة ما دام هناک إنسان فی هذا العالم.

ویتأسّس الوعی الهرمنوطیقیّ لدى غادامر على أنّه تجربة ذات طابع کلّیّ یستغرق وجود الإنسان فی عالمه، وهی بذلک مستغرقة لکلّ أنماط التجارب الإنسانیّة، لا على نحو التضمّن، ولکن على نحو تکتسب فی کلّ تجاربنا المعاشة طابع الـتأویل، بوصفه فعل فهم یتکوّن بالحوار بین الأنا والآخر. وإذا کان النصّ اللغویّ المصداق التأویلیّ التقلیدیّ للمیراث الهرمنیوطیقیّ السابق لکلٍّ من هیدغر وغادامیر، فإنّ الأساس الفلسفیّ الذی مهّداه لإقامة النظریّة الهرمنیوطیقیّة علیه نجح فی توسیع نطاق مفهوم التأویل ذاته ومفهوم النصّ، ومن ثمّ فی فهم الوجود الإنسانیّ وکلّ ظواهره وتجلّیاته الثقافیّة والحضاریّة، على أنّه حدث تأویلیّ أو تجربة تأویل أصیلة.

ولتجلیة الملامح الدقیقة لهذا الطابع الأنطولوجیّ للتجربة الإنسانیّة بمفهومها الهرمنیوطقیّ الفلسفیّ هذا، فقد تمّت مقاربتها مقاربة أساسیّة بالتجربة الجمالیّة، حیث تکمن أهمّیّة الفنّ فی أنّه "یتحدّث إلینا"[48]، ومن ثمّ فی توافر العمل الفنّیّ على المزایا النصّیّة التی ینکشف بها طابعه الخطابیّ المهمّ لکلّ تجربة تأویل؛ بوصفها قراءة للحقیقة المتجلّیة للفهم، لا معطىً للوعی نهائیّاً؛ بل بوصفه حواراً مستمرّاً یتجدّد کلّ حین بجدل سؤال المتلقّی الذی یستنطق العمل إجاباته المنتمیة لراهنه.

وبذلک یجد فهم التراث حقیقته التأویلیّة، مثلما یجدها أیّ فهم لنصّ لغویّ، وأیّ تلقٍ جمالیّ لعمل فنّیّ؛ حیث تُقارَب تجربتُنا فی تأویل التراث تجربتَنا فی تلقّی العمل الفنّیّ، على أساسٍ من مشترکهما الأنطولوجیّ.

ویوحّد الطابع اللغویّ للفهم، ومن ثمّ لکلّ تجربة تأویل، بین التجربة الدینیّة والتجربة الجمالیّة (الشعریّة خاصّة) فی هرمنیوطیقا غادامر؛ ذلک أنّ کلّاً منهما یتوسّط اللغة. وبما أنّ الفعل الهرمنیوطیقیّ لا یتجاوز فی حقیقته "فنّ فهم شیءٍ ما یبدو غریباً وغیر مفهوم بالنسبة إلینا"[49]، فإنّنا إزاء کلٍّ من العمل الفنّیّ/ النصّ الشعریّ والنصّ الدینیّ نکون فی الحقیقة إزاء نصٍّ نطالبه بأن یتحدّث إلینا ویخاطبنا بمضمونه، على نحو "یسمو بهذا المضمون إلى حالة حضورٍ مفعمٍ بالحیاة، ملموسٍ إلى درجة أنّه یجعلنا ممتلئین به"[50]

 

خاتمة:

على الرغم من امتیاز المضمون فی النصّ الدینیّ بطابع القداسة الذی یضفی علیه بدوره طابع "الوثیقة" أو "العهد" اللذین یجعلانه یتّخذ صفة "الرسالة" أو الخطاب الرسالیّ لکلّ فرد، فإنّ هذا لا یبتعد بحقیقة تجربتنا معه عن حقیقة تجربتنا مع العمل الفنّیّ؛ إذ النمط الخطابیّ لکلّ منهما یبقى واحداً، "وبذلک، فإنّ الفهم ینتمی من حیث ماهیّته إلى تبلیغ الرسالة، ویحدث إرسالاً واعیاً، وهذا یعنی فی النهایة أنّ الرسالة تتطلّب ترجمة"[51]. ومناط الأمر فی کلٍّ منهما یعود إلى الطابع الرمزیّ للغة التی یخاطبان بها متلقیهما، إذ تُزوّد اللغة بقدرة استثنائیّة على التأثیر وإیقاظ الشعور بما هو مشترک (بین المتلقّی والنصّ) من خلال خصوصیّة التعبیر، ما یمنحهما بنیة رمزیّة واحدة.

 

 

 



[1] ولد الشیخ أمین الخولیّ فی 1 مایو 1895م بمحافظة المنوفیّة بمصر، وتوفّی فی 9 مارس 1966م. حفظ القرآن وهو فی العاشرة من عمره. تخرّج من مدرسة القضاء الشرعیّ، ثمّ أصبح مدرّساً فیها فی 10 مایو عام 1920م، وعیّن إماماً للسفارة المصریّة فی روما فی 1923م، ثمّ نقل إلى مفوضیّة مصر فی برلین عام 1926م. عاد عام 1927م إلى وظیفته فی القضاء الشرعیّ، ثمّ انتقل إلى قسم اللغة العربیّة بکلّیّة الآداب عام 1928م.

[2] باحث فی الفکر الإسلامیّ، من العراق.

[3] انظر: الخولی، یمنى طریف: أمین الخولی والأبعاد الفلسفیّة للتجدید، القاهرة، مؤسّسة هنداوی للتعلیم والثقافة، 2012م، ص28-29.

[4] سعفان، کامل: أمین الخولی، القاهرة، الهیئة المصریّة العامّة للکتاب، 1983م، ص65.

[5] طُبِعَت هذه الرسالة مرّة ثانیة عام 1961م، وقد نشرتها دار الهنا فی القاهرة.

[6] سعفان، أمین الخولی، م.س، ص146.

[7] م.ن، ص146-147.

[8] انظر: م.ن، ص147.

[9] انظر: رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، بیروت، دار صادر، ١٩٥٧م، ج2، الرسالة الثامنة من الجسمانیّات الطبیعیّة، ص١٧٨ وما بعدها.

[10] الخولی، أمین: المجدّدون فی الإسلام، ص17.

[11] الخولی، أمین: کتاب الخیر، ص55، 57.

[12] أسرف فی تطبیق هذا المنهج الشیخ طنطاوی جوهری (1870-1940م)  فی تفسیره: الجواهر فی تفسیر القرآن الکریم.

[13] شعبان، حامد: أمین الخولی والبحث اللغوی، ص١٦.

[14] الخولی، أمین: مناهج تجدید فی النحو والبلاغة والتفسیر والأدب، ص17.

[15] انظر: م.ن، ص46. نقلاً عن: جریدة الأهرام 27 رمضان 1384هـ.ق.

[16] م.ن.

[17] الخولی، أمین: المجدّدون فی الإسلام، ص٥٢.

[18] الخولی، المجدّدون فی الإسلام، م.س، ص54-55.

[19] الخولی، أمین: تعقیب على مقالة "التفسیر" فی دائرة المعارف الإسلامیّة، ص2336.

[20] الخولی، المجدّدون فی الإسلام، م.س، ص32-33.

[21] الأحکام الإمضائیّة: هی ما أسّسها العقلاء وأمضاها الشارع؛ أی إنّ المعاملات تشریعات کانت مُتعارفة لتنظیم الاجتماع العربیّ فی الجزیرة عصر البعثة، فأمضاها الإسلام وأقرّها، مع حذف شیء منها وتهذیبه وإعادة بنائه.

[22] یشیر الشیخ أمین الخولیّ فی بعض مقالاته إلى إمکان إقامة المسلم لصلاة الجمعة فی بیته؛ لأنّ بوسعه تلقّی الخطبة عبر الرادیو، واستماع الخطبة رکن فی صلاة الجمعة.

[23] مکث الخولیّ فی روما وبرلین فی السنوات "1923-1927م"، وکان یُجید اللغتین الإیطالیّة والألمانیّة.

[24] أصدر شلایر ماخر کتابه الذی تحدّث فیه عن مفهومه الجدید للهرمنیوطیقا للمرّة الأولى عام 1799م، وعنوان الکتاب بالألمانیّة هو:

Friedrich Schleiermacher, Über die Religion. Reden an die Gebildeten unter ihren Verächtern ,1799.

وأمّا عنوان الکتاب بالعربیّة؛ فهو: "عن الدین: خطابات لمحتقریه من المثقّفین"، تعریب الکتاب عن النسخة الأصلیة بلغته الأمّ (الألمانیّة): أسامة الشحمانی، إصدار: مرکز دراسات فلسفة الدین فی بغداد.

[25] کتب محمد العلائیّ مقدّمة الطبعة الأولى لکتاب أستاذه "فنّ القول". وأشار فی هامش المقدّمة إلى أنّه: "مضت سنّة الأمناء أن یقدِّم شبابهم، وهم أصحاب الغد، أعمال شیوخهم التی یدبّرون بها لهذا الغد. وعلى هذه السنّة أُقدِّم "فنّ القول". (انظر: ص29).

ومن تلامذة الشیخ أمین الخولیّ المعروفین: شکری عیّاد، ومصطفى ناصف، وحسین نصّار.

[26] أسّس الشیخ أمین الخولیّ جماعة الأُمناء عام 1944م، ومجلّة الأدب عام 1956م.

[27] تولى ترسیمَ نهج "التفسیر الأدبیّ للقرآن" من مدرسة الأُمناء محمد أحمد خلف الله فی کتابه "الفنّ القصصیّ فی القرآن الکریم"، وفی الجیل التالی کتب نصر حامد أبو زید -سنة 1990م-  "مفهوم النصّ: دراسة فی علوم القرآن"، وحاول فیه -کما یقول- "إعادة ربط الدراسات القرآنیّة بمجال الدراسات الأدبیّة والنقدیّة، بعد أنْ انفصلت عنها فی الوعی الحدیث والمعاصر؛ نتیجة لعوامل کثیرة أدّت إلى الفصل بین التراث وبین مناهج الدرس العلمیّ". (أبو زید، نصر حامد: مفهوم النصّ: دراسة فی علوم القرآن، ط1، القاهرة، الهیئة العامّة للکتاب، 1990م، ص21).

وقد صار کلٌّ من الکِتَابین مثاراً للجدل واتّهام صاحبه بالمُرُوق، وتألیب الرأی العامّ ضدّ الکاتب والکتاب. ذکر توفیق الحکیم: "لقد طالب بعضهم بحرق الرسالة على مرأى ومشهد من الأساتذة وطلبة کلّیّة الآداب، وطالب الآخرون بفصل الأستاذ خلف الله". (الحکیم، توفیق: یقظة الفکر، القاهرة، مکتبة الآداب، 1986م، ص10-11).

[28] لم یشإ الشیخ أمین الخولیّ التنصّل من اجتهاد تلمیذه، ولم یتراجع بعد أن حجبوا لقب الدکتوراه عنه، ولم یتنازل مقابل أولئک الذین وصفهم بـ"الآثمین فی هذا السبیل والغافلین المخدوعین"، ودعا أن یعفو الله عنهم. کما کتب الخولی فی مقدّمة الطبعة الثالثة لکتاب "الفنّ القصصیّ فی القرآن الکریم"، لتلمیذه "محمد أحمد خلف الله" ما یلی: "أستطیع أنْ أقول إنّ رسالة الفنّ القصصیّ قد أدّت تلک الضریبة فی سنتی 1946-1948، وتقاضتها منها عامیة فاسدة، فی ظنّ من ظنّ لهم خطأ وخداعاً أنّهم أصحاب وعی. والیوم صارت الرسالة ووجهتها کسباً غنیاً، ووجهاً من الإعجاز القرآنیّ عند أصحاب الدین والأدب. فإنّی أقول بالأصالة والنیابة: عفا الله عن جمیع الآثمین فی هذا السبیل والغافلین المخدوعین.. وتحیّة لمؤلّف الفنّ القصصیّ، الذی أشهد الله أنّه کان فی صدقه وصدره مثلاً من الشباب؛ إذ ذاک یطمئن به المستقبل". (انظر: الفنّ القصصیّ فی القرآن الکریم. شرح وتعلیق: خلیل عبد الکریم، بیروت، الانتشار العربی، 1999م، ص7). وکان إصرار أمین الخولیّ فی الدفاع عن تلمیذه حازماً صلباً عنیداً، حتّى إنّه قال: "فلو لم یبقَ فی مصر والشرق واحد یقول إنّه حقّ، لقلت وحدی وأنا أُقذف فی النار، إنّه حقّ، لأبری ضمیری..." (الحکیم، یقظة الفکر، م.س، ص33).

[29] الخولی، مناهج تجدید، م.س، ص230.

[30] تعقیب على مقالة "التفسیر" فی دائرة المعارف الإسلامیّة، ص2341.

[31] الخولی، مناهج تجدید، م.س، ص236.

[32] الخولی، مناهج تجدید، م.س، ص237.

[33] م.ن، ص160.

[34] م.ن، ص152.

[35] م.ن، ص154.

[36] الخولی، مناهج تجدید، م.س، ص153.

[37] عرّف شلایرماخر الهِرْمِنیوطیقا، بأنّها "فنّ الفهم".

[38] تعقیب على مقالة "التفسیر" فی دائرة المعارف الإسلامیّة، ص2332-2334.

[39] أبو القاسم الجنید بن محمد الخزاز القواریری: متصوّف شهیر من متصوّفة بغداد فی القرن الثالث، ولد فی بغداد وتوفّی ودفن فیها سنة 297هـ.ق.

[40] الکلاباذی، أبو بکر محمد بن إسحاق: التعرّف لمذهب أهل التصوّف، ضبط وتعلیق وتخریج: أحمد شمس الدین، ط1، بیروت، دار الکتب العلمیة، ١٩٩٣م، ص١٥٦.

[41] الخولی، مناهج تجدید، م.س، ص224.

[42] م.ن.

[43] الخولی، مناهج تجدید، م.س، ص224.

[44] م.ن، ص229.

[45] صدرت بعض الکتابات بعناوین مبهمة؛ مثل: "الردّ على الهِرْمِنیوطیقا".. وغیرها، تُحذِّر من الاطّلاع على الهِرْمِنیوطیقا، فضلاً عن الإفادة منها وتوظیفها فی تفسیر نصوص الأدیان. یؤشّر هذا النوع من العناوین إلى جهل الکاتب بما تعنیه الهِرْمِنیوطیقا، وإلا لو عرفها على أنّها علم أو فنّ للفهم لم یتورّط بعنوان کهذا؛ إذ یبدو مثله کمن یکتب کتاباً بعنوان: الردّ على علم الاجتماع، أو الردّ على علم الاقتصاد، أو الردّ على فلسفة اللغة...

[46] غادامیر، هانز جورج: الحقیقة والمنهج، ترجمة (من الألمانیّة إلى العربیّة): حسن ناظم؛ علی حاکم صالح، مراجعة الترجمة: جورج کتورة، طرابلس: دار أویا، 2007م، ص416-417.

[47] م.ن، ص497.

[48] غادامیر، الحقیقة والمنهج، م.س، ص109.

[49] غادامیر، هانز جورج: تجلّی الجمیل (ومقالات أخرى)، تحریر: روبرت برناسکونی، ترجمة ودراسة وشرح: سعید توفیق، القاهرة: المشروع القومی للترجمة، 1997م، ص249.

[50] م.ن، ص288.

[51] م.ن، ص296.

[1] م.ن، ص146-147.
[1] انظر: م.ن، ص147.
[1] انظر: رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، بیروت، دار صادر، ١٩٥٧م، ج2، الرسالة الثامنة من الجسمانیّات الطبیعیّة، ص١٧٨ وما بعدها.
[1]الخولی، أمین: المجدّدون فی الإسلام، ص17.
[1] الخولی، أمین: کتاب الخیر، ص55، 57.
[1]أسرف فی تطبیق هذا المنهج الشیخ طنطاوی جوهری (1870-1940م)  فی تفسیره: الجواهر فی تفسیر القرآن الکریم.
[1]شعبان، حامد: أمین الخولی والبحث اللغوی، ص١٦.
[1]الخولی، أمین: مناهج تجدید فی النحو والبلاغة والتفسیر والأدب، ص17.
[1] انظر: م.ن، ص46. نقلاً عن: جریدة الأهرام 27 رمضان 1384هـ.ق.
[1]م.ن.
[1]الخولی، أمین: المجدّدون فی الإسلام، ص٥٢.
[1]الخولی، المجدّدون فی الإسلام، م.س، ص54-55.
[1]الخولی، أمین: تعقیب على مقالة "التفسیر" فی دائرة المعارف الإسلامیّة، ص2336.
[1]الخولی، المجدّدون فی الإسلام، م.س، ص32-33.
[1] الأحکام الإمضائیّة: هی ما أسّسها العقلاء وأمضاها الشارع؛ أی إنّ المعاملات تشریعات کانت مُتعارفة لتنظیم الاجتماع العربیّ فی الجزیرة عصر البعثة، فأمضاها الإسلام وأقرّها، مع حذف شیء منها وتهذیبه وإعادة بنائه.
[1]یشیر الشیخ أمین الخولیّ فی بعض مقالاته إلى إمکان إقامة المسلم لصلاة الجمعة فی بیته؛ لأنّ بوسعه تلقّی الخطبة عبر الرادیو، واستماع الخطبة رکن فی صلاة الجمعة.
[1]مکث الخولیّ فی روما وبرلین فی السنوات "1923-1927م"، وکان یُجید اللغتین الإیطالیّة والألمانیّة.
[1]أصدر شلایر ماخر کتابه الذی تحدّث فیه عن مفهومه الجدید للهرمنیوطیقا للمرّة الأولى عام 1799م، وعنوان الکتاب بالألمانیّة هو:
Friedrich Schleiermacher, Über die Religion. Reden an die Gebildeten unter ihren Verächtern ,1799.
وأمّا عنوان الکتاب بالعربیّة؛ فهو: "عن الدین: خطابات لمحتقریه من المثقّفین"، تعریب الکتاب عن النسخة الأصلیة بلغته الأمّ (الألمانیّة): أسامة الشحمانی، إصدار: مرکز دراسات فلسفة الدین فی بغداد.
[1] کتب محمد العلائیّ مقدّمة الطبعة الأولى لکتاب أستاذه "فنّ القول". وأشار فی هامش المقدّمة إلى أنّه: "مضت سنّة الأمناء أن یقدِّم شبابهم، وهم أصحاب الغد، أعمال شیوخهم التی یدبّرون بها لهذا الغد. وعلى هذه السنّة أُقدِّم "فنّ القول". (انظر: ص29).
ومن تلامذة الشیخ أمین الخولیّ المعروفین: شکری عیّاد، ومصطفى ناصف، وحسین نصّار.
[1]أسّس الشیخ أمین الخولیّ جماعة الأُمناء عام 1944م، ومجلّة الأدب عام 1956م.
[1] تولى ترسیمَ نهج "التفسیر الأدبیّ للقرآن" من مدرسة الأُمناء محمد أحمد خلف الله فی کتابه "الفنّ القصصیّ فی القرآن الکریم"، وفی الجیل التالی کتب نصر حامد أبو زید -سنة 1990م-  "مفهوم النصّ: دراسة فی علوم القرآن"، وحاول فیه -کما یقول- "إعادة ربط الدراسات القرآنیّة بمجال الدراسات الأدبیّة والنقدیّة، بعد أنْ انفصلت عنها فی الوعی الحدیث والمعاصر؛ نتیجة لعوامل کثیرة أدّت إلى الفصل بین التراث وبین مناهج الدرس العلمیّ". (أبو زید، نصر حامد: مفهوم النصّ: دراسة فی علوم القرآن، ط1، القاهرة، الهیئة العامّة للکتاب، 1990م، ص21).
وقد صار کلٌّ من الکِتَابین مثاراً للجدل واتّهام صاحبه بالمُرُوق، وتألیب الرأی العامّ ضدّ الکاتب والکتاب. ذکر توفیق الحکیم: "لقد طالب بعضهم بحرق الرسالة على مرأى ومشهد من الأساتذة وطلبة کلّیّة الآداب، وطالب الآخرون بفصل الأستاذ خلف الله". (الحکیم، توفیق: یقظة الفکر، القاهرة، مکتبة الآداب، 1986م، ص10-11).
[1]لم یشإ الشیخ أمین الخولیّ التنصّل من اجتهاد تلمیذه، ولم یتراجع بعد أن حجبوا لقب الدکتوراه عنه، ولم یتنازل مقابل أولئک الذین وصفهم بـ"الآثمین فی هذا السبیل والغافلین المخدوعین"، ودعا أن یعفو الله عنهم. کما کتب الخولی فی مقدّمة الطبعة الثالثة لکتاب "الفنّ القصصیّ فی القرآن الکریم"، لتلمیذه "محمد أحمد خلف الله" ما یلی: "أستطیع أنْ أقول إنّ رسالة الفنّ القصصیّ قد أدّت تلک الضریبة فی سنتی 1946-1948، وتقاضتها منها عامیة فاسدة، فی ظنّ من ظنّ لهم خطأ وخداعاً أنّهم أصحاب وعی. والیوم صارت الرسالة ووجهتها کسباً غنیاً، ووجهاً من الإعجاز القرآنیّ عند أصحاب الدین والأدب. فإنّی أقول بالأصالة والنیابة: عفا الله عن جمیع الآثمین فی هذا السبیل والغافلین المخدوعین.. وتحیّة لمؤلّف الفنّ القصصیّ، الذی أشهد الله أنّه کان فی صدقه وصدره مثلاً من الشباب؛ إذ ذاک یطمئن به المستقبل". (انظر: الفنّ القصصیّ فی القرآن الکریم. شرح وتعلیق: خلیل عبد الکریم، بیروت، الانتشار العربی، 1999م، ص7). وکان إصرار أمین الخولیّ فی الدفاع عن تلمیذه حازماً صلباً عنیداً، حتّى إنّه قال: "فلو لم یبقَ فی مصر والشرق واحد یقول إنّه حقّ، لقلت وحدی وأنا أُقذف فی النار، إنّه حقّ، لأبری ضمیری..." (الحکیم، یقظة الفکر، م.س، ص33).
[1]الخولی، مناهج تجدید، م.س، ص230.
[1]تعقیب على مقالة "التفسیر" فی دائرة المعارف الإسلامیّة، ص2341.
[1]الخولی، مناهج تجدید، م.س، ص236.
[1]الخولی، مناهج تجدید، م.س، ص237.
[1]م.ن، ص160.
[1]م.ن، ص152.
[1]م.ن، ص154.
[1]الخولی، مناهج تجدید، م.س، ص153.
[1] عرّف شلایرماخر الهِرْمِنیوطیقا، بأنّها "فنّ الفهم".
[1]تعقیب على مقالة "التفسیر" فی دائرة المعارف الإسلامیّة، ص2332-2334.
[1] أبو القاسم الجنید بن محمد الخزاز القواریری: متصوّف شهیر من متصوّفة بغداد فی القرن الثالث، ولد فی بغداد وتوفّی ودفن فیها سنة 297هـ.ق.
[1] الکلاباذی، أبو بکر محمد بن إسحاق: التعرّف لمذهب أهل التصوّف، ضبط وتعلیق وتخریج: أحمد شمس الدین، ط1، بیروت، دار الکتب العلمیة، ١٩٩٣م، ص١٥٦.
[1]الخولی، مناهج تجدید، م.س، ص224.
[1]م.ن.
[1]الخولی، مناهج تجدید، م.س، ص224.
[1]م.ن، ص229.
[1]صدرت بعض الکتابات بعناوین مبهمة؛ مثل: "الردّ على الهِرْمِنیوطیقا".. وغیرها، تُحذِّر من الاطّلاع على الهِرْمِنیوطیقا، فضلاً عن الإفادة منها وتوظیفها فی تفسیر نصوص الأدیان. یؤشّر هذا النوع من العناوین إلى جهل الکاتب بما تعنیه الهِرْمِنیوطیقا، وإلا لو عرفها على أنّها علم أو فنّ للفهم لم یتورّط بعنوان کهذا؛ إذ یبدو مثله کمن یکتب کتاباً بعنوان: الردّ على علم الاجتماع، أو الردّ على علم الاقتصاد، أو الردّ على فلسفة اللغة...
[1] غادامیر، هانز جورج: الحقیقة والمنهج، ترجمة (من الألمانیّة إلى العربیّة): حسن ناظم؛ علی حاکم صالح، مراجعة الترجمة: جورج کتورة، طرابلس: دار أویا، 2007م، ص416-417.
[1] م.ن، ص497.
[1] غادامیر، الحقیقة والمنهج، م.س، ص109.
[1] غادامیر، هانز جورج: تجلّی الجمیل (ومقالات أخرى)، تحریر: روبرت برناسکونی، ترجمة ودراسة وشرح: سعید توفیق، القاهرة: المشروع القومی للترجمة، 1997م، ص249.
[1] م.ن، ص288.
[1] م.ن، ص296.