نوع المستند : المقالة الأصلية
المؤلف
جامعة
المستخلص
نقاط رئيسية
أولًا: تلازم العرفان الحقّ مع التدیّن المحمَّدیّ الأصیل
ثانیًا: العرفان وتهذیب النفس
ثالثًا: العرفان والعمل
رابعًا: العرفان والعلم
خامسًا: العرفان والبُعد الاجتماعیّ
سادسًا: العرفان والبُعد السیاسیّ
الكلمات الرئيسية
العرفان الإسلامیّ بین شرط الکمال وهدفیّة التّکامل -نحو عرفان عملیّ من منظار مدرسة أهل البیت (عله)-
الدکتور عبد الفضیل ادراوی[1]
خلاصة المقالة:
تدافع هذه المساهمة المتواضعة عن وجهة نظرٍ مؤدّاها أنّ العرفان فی المدرسة الإسلامیّة، وتحدیدًا فی مدرسة أئمّة أهل البیت (عله)، یحوز قیمته من غایاته أو من هدفیّة التکامل فیه، بوصفها حالة تربویّة تخلیقیّة تخلّقیة یجب أن تتحکّم فی الفرد والمجتمع معًا، سیرًا نحو تحقیق الحکومة الإلهیّة الموعودة، لتجسید العدالة بمفهومها الشامل.
وبالنظر إلى أنّ جوهر العرفان وحقیقته إنّما هو ابتغاء تحصیل تکامل روحیّ معنویّ تتهذّب فیه النفس، وتتجاوز الذات العرفانیّة فیه إِنّیتَها وأنَانِیّتَها وصَنَمِیّتها (الهجرة من النفس إلى الله)، وهذا لا یتحقّق إلا بشرط الکمال؛ بوصفه شرطًا توجیهیًّا. فمن جهة یتوجّب أن یستند العرفان فی مفهومه ومعارفه وتفاصیله الدقیقة، وفی طرق تنزیله وتحقیقه ممارسةً عملیّةً فی حیاة صاحبه، إلى العقیدة المحمّدیّة الأصیلة، ممثّلة فی مدرسة أئمّة أهل البیت (عله)، بما هم الصراط المستقیم وعنوان الطهر والکمال الحقیقیّ، وبوصفهم خزّان العلم، وأبواب مدینته، ومرشدی البشریّة بنصّ الوحی. هذا الشرط من شأنه أنْ یقی السلوک العرفانیّ، معرفة تنظیریّة وممارسة عملیّة، من صور التیه والضلال والانحراف، التماسًا لتحقیق تهذیب قویم یقود إلى الخلاص وتبرئة الذمّة. ومن جهة أخرى، وتبعًا لذلک، یغدو العرفان ذا بعد عملیّ وفاعلیّة وحرکیّة تمتدّ من الفرد فی صورته اللازمة أو الخاصّة، إلى مجالات الحیاة العامّة المستوعبة لما هو اجتماعیّ، وما هو سیاسیّ، وما هو علمیّ ثقافیّ فی بوتقة واحدة، حیث تصبح جمیع مجالات حرکة الإنسان فی هذه الدنیا، سواءً أکانت حرکة فردیّة خاصّة ومغرقة فی الذاتیّة والخصوصیّة الفردیّة، أم کانت حرکة مشارکة علائقیّة، یرتبط فیها الفرد بالآخر، ویتواصل معه فی واقعه المعیش.
ذلک کلّه یغدو مستوعبًا ضمن مفهوم کلّیّ وشامل للعرفان، فی ما عُبّر عنه بشرط الکمال أو (العرفان الکامل)؛ إذ لا یمکن أن ندّعی تنظیرًا لعرفان إسلامیّ حقیقیّ من دون النظر إلیه فی بعده الشمولیّ والمهیمن، من جانب الاستناد إلى مرجعیّة عقدیّة أصیلة تسلّم بأمومة أئمّة أهل البیت (عله)، ومن جانب شمولیّة العرفان واستیعابه الإنسان فی أبعاده؛ بحیث لا یمکن أن یستغنی عنه فی جانب من جوانب الحیاة، ولا فی أیّ موقعٍ یتحرّک أو یوجد فیه الفرد.
کلمات مفتاحیّة:
العرفان، السیر والسلوک، المعرفة الحقّة، الکمال، الوَحْیانیّة، أهل البیت، التدیّن المحمّدیّ الأصیل، الترشید، الطهر المعنویّ، الجهاد الأکبر، التهذیب، المراقبة.
مقدّمة:
لا یخرج العرفان فی المدرسة الإسلامیّة عن کونه سعیًا نحو صنع البیئة التی یتکامل فیها الإنسان لتحقیق العبودیة الحقّة لله -تعالى- فی هذه الدنیا، وحیث إنّ هذه العبودیّة تتأسّس على موجّهات غیبیّة تکفّل الوحی ببیانها للبشریّة، أمکننا أن نتبعها بمسلّمة مفادها: أنّ التکامل الحقّ لا یمکن أنْ یتحقّق إلا بشرط إمامة أئمّة أهل البیت (عله) فی المعارف الدینیّة، إذ لا إمکانیّة للحدیث عن عرفان إسلامیّ من دون الاستناد إلى إمامة شرعیّة، ومن دون التسلیم بالولایة المطلقة للإمامة التی ارتضاها الله -تعالى- للبشریّة فی هذه الحیاة. وبالنظر إلى حاجة الإنسان فی سعیه نحو الکمال إلى قادة ومرشدین یوجّهونه ویعلّمونه ویقَوِّمون تصرّفاته ویدلّونه على عوالم السیر والسلوک وأسرارها، وهذا لا یتحقّق إلا فی من ارتضاهم الله -تعالى- أمناء على الوحی ومعارفه، وأطلعهم على علومه وتفاصیله؛ لکی یرجع إلیهم الناس ویهتدوا بهداهم.
وعلى الرغم من أنّ العرفان قد یبدو للوهلة الأولى اختیارًا ذاتیًّا أو ممارسة فردیّة وشعیرة عینیّة تنطلق من الذات الخاصّة لصاحبها، فإنّ حقیقته تمتدّ نحو إنجاز الفعل فی المجتمع، وتتحوّل إلى سلوک یتعدّى قوامه التأثیر فی المحیط، والعمل على إفادة الآخرین، والتحرّک من أجلهم، ومراقبة تفاصیل الذات؛ لمنع کلّ شرّ أو أذى قد یصدر فی حقّ الغیر، بل والانتباه إلى کلّ تقصیر قد یصدر من الذات فی مسؤولیّتها ورسالتها نحو الغیر.
لذا؛ فإنّ ثمّة أهمّیّة بالغة یحتلّها العرفان فی المنظومة الفکریّة والعقدیّة للمدرسة الإمامیّة؛ فهو ضرورة من ضروریّات حیاة الفرد فی المجتمع، وعنصرٌ مرکزیٌّ فی البناء السلیم للمجتمع، وبه قوام الفرد والمجتمع الخالیین من العاهات النفسیّة والروحیّة. فالعرفان مصدر طاقة تتزوّد عبره وبه الذات، روحیًّا ومادّیًّا، ومنه تأخذ ما به تغدو مستحقّة صفة الإنسانیّة، فهو مظهر من مظاهر التعبّد الذی عبّر عنه بعضهم بکونه "أشبه ما یکون بعملیّة التنفّس عند الإنسان... ویعتبر عاملًا ضروریًّا لا غنى عنه لتوثیق الوشائج والصلات الطبیعیّة بین الوعی وبین بیئته الخاصّة... ویعتبر وظیفة طبیعیّة للروح والجسد فی آنٍ واحد، حیث لا یمکن الاستغناء عنها أبدًا"[2].
أولًا: تلازم العرفان الحقّ مع التّدیّن المحمّدیّ الأصیل:
إذا ما تتبّعنا الأصول الحقیقیّة والجوهریّة التی یؤول إلیها العرفان، فلا ریب فی أنّ أسسه؛ عقلًا وفطرةً وقلبًا، یجب أنْ ترجع إلى المدرسة الإسلامیّة الأصیلة؛ أی "المدرسة المحمّدیّة على صاحبها وآله أفضل الصلاة والسلام، بجمیع المعانی والدرجات والأبعاد"[3]، بالنظر إلى کون الغایة الأساس من العرفان؛ إنّما هی الدفع بالإنسان نحو حالات الکمال والطهر المعنویّ. روی عن الرسول الأعظم (ص): "إنّما العلم ثلاثة: آیة محکمة، أو فریضة عادلة، أو سنّة قائمة، وما خلاهنّ فهو فضل"[4].
بل إنّ الحیاة برمّتها، والوجود على امتداده، لا معنى له ولا قیمة حقیقیّة له إلا فی جوهره الإلهیّ، وفی ماهیّته التوحیدیّة. فالدیانات السماویّة جمیعها إنّما تتّحد وتتوحّد فی هذا المسعى؛ وهو "إعادة جمیع المحسوسات وکلّ العالم إلى مرتبة التوحید. تلک المرتبة التی یتیقّن فیها العبد ویقتنع عقلًا وقلبًا وجوارح أنْ لا ملجأ ولا منجى ولا غایة إلا الله تعالى، وأنّ "کلّ ما هو موجود فهو منه تعالى، وکلّ ما سیأتی أیضًا هو منه... فکلّ ما هو موجود هو الله"[5].
ولا یخفى أنّ المدرسة الإلهیّة؛ ممثّلة فی الأنبیاء والرسل والأئمّة الأوصیاء (عله)، تتحدّد رسالتها الأساس منذ البدء وإلى نهایة هذا العالم، وتسیر فی خدمة عقیدة التوحید، وتحقیق العبودیّة الحقیقیّة لله تعالى، فلا یُتصوّر عرفان ولا تربیة ولا تخلیق ولا طهر؛ إلا بمرجعیّة مصادیق الطهارة والکمال الحقیقیّ، ممثَّلًا فی مدرسة أهل البیت (عله)، وتحدیدًا فی رسول الله (ص)، وأوصیائه الأئمّة الأطهار (عله)؛ الذین لهم ارتباط نَسَبِی بالبیت النبویّ، وکان لهم تبعًا لذلک مسؤولیّات ترشیدیّة وتخلیقیّة شبیهة إلى حدّ کبیر بمسؤولیّات الرسول (ص)، فهم من یضمن "سلامة الهدایة الدینیّة للأمّة الإسلامیّة من الناحیة الروحیّة"[6]، وهم وحدهم الذین لهم الأسبقیّة ومرکزیّة القدوة، ولهم المرجعیّة فی کلّ الأمور، حتّى وُصفوا بأنّهم "عباد مصطفون مطهّرون أورثهم الله علم الکتاب، الذی هو روح أمریّ من عالم الأمر وعالم الإبداع (کن فیکون)"[7]؛ بل هم عدل القرآن وقرناؤه، وهم مصادیقُه، والأدلّة علیه، والقادة إلى حقیقته، والعارفون حقًّا به. ویکفی لکلّ عارف أو طالب عرفان هذا البیان الخالد منه (ص): "ألا إنّی مخلِّف فیکم کتاب ربیّ عزّ وجلّ، وعترتی أهل بیتی، ثمّ أخذ بید علیّ (ع)، فرفعها، فقال: هذا علیّ مع القرآن، والقرآن مع علیّ، لا یفترقان حتّى یردا علیّ الحوض، فاسألوهما ما خلفت فیهما"[8]. وعن الإمام علی (ع): "... وما ترک رسول الله (ص) علمًا علّمه الله من حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهی، کان أو یکون... إلا علّمنیه وحفظته، ولم أنس حرفًا واحدًا منه..."[9]. فهم -إذًا- وحدهم المؤهّلون للإحاطة بالعوالم المعرفیّة والعرفانیّة ذات الصلة بمحوریّة القرآن الذی لا یمکن الإحاطة بجمیع مراتبه الغیبیّة وبمعانیه العمیقة من لدن بنی البشر، الذین لا یمکن أن یصلوا أیّ کمال بقدراتهم الحسّیّة، ولا بدّ لهم تبعًا لذلک من "قدرة وحیانیّة" تتجسّد فی الأئمّة (عله) المعیّنین بالوحی.
بل إنّ مفارقة هؤلاء والاستغناء عنهم من شأنها أن تقود صاحبها إلى مردیات الزیغ والانحراف. ولعلّ ما یلاحظ على مدارس التصوّف والزهد فی العالم الإسلامیّ من تخبّط، وما شاب ویشوب عدیدًا من التجارب من انحرافات وأخطاء وتشویه، إنّما مردّه إلى تهمیش مرجعیّة أئمّة أهل البیت (عله)، الذین هم وحدهم دون سواهم، ضمان الأمّة وأمانها من الزیغ والانحراف. روی عن الرسول الأکرم (ص): "... وأهل بیتی أمان لأمّتی، فإذا ذهب أهل بیتی أتى أمّتی ما یوعدون"[10].
فلا یمکن تحصیل معارف غیبیّة، ولا إدراک حقائق عالم الروح والمعنى؛ إلا بمرجعیّة أهل البیت (عله)؛ بوصفهم خزّان جمیع العلوم، وأبواب جمیع المعارف، والعارفین بأسرارها وتفاصیلها، وفیهم "حصر القرآن الکریم الوصول إلى المکنون من حقائقه العلویّة الغیبیّة؛ لأنّهم وحدهم المشهود لهم بالتّطهیر الإلهیّ"[11].
وفی الزیارة الجامعة الصغیرة ما یعضد هذه الحقیقة، فیجعل المعرفة الحقیقیّة بالله -تعالى- وبشؤون الغیب وبتفاصیل الکمال والطّهر المعنویّ، ذلک کلّه، متوقّفًا ومشروطًا بمعرفة الأئمّة الأطهار (عله) ذوی الاختصاص والتفرّد بالمعرفة الحقّة، وحفظة الشرع، والقوّامون علیه لهدایة البشر وحفظ مصالحهم: "السلام على محالّ معرفة الله، السلام على مساکن ذکر الله، السلام على مظاهر أمر الله ونهیه، السلام على الدعاة إلى الله، السلام على المستقرّین فی مرضاة الله، السلام على الممحّصین فی طاعة الله، السلام على الأدلّاء على الله، السلام على الذین من والاهم فقد والى الله ومن عاداهم فقد عادى الله ومن عرفهم فقد عرف الله ومن جهلهم فقد جهل الله"[12].
لذا؛ نجد أنّ الأنبیاء والرسل والأئمّة من أهل البیت (عله) جمیعًا، قد عُدّوا المؤسّسین الأوائل لتیّار الزهد والعرفان والتصوّف فی الثقافة العربیّة الإسلامیّة، الذی کان فی حقیقته تطویرًا واستلهامًا لفلسفة الزهد، وتجسیدًا لمبادئ مدرسة هؤلاء الروّاد فی العرفان والریاضة النفسیّة. بل إنّ ثمّة من الدارسین مَنْ یرى أنّ رموز المدارس الصوفیّة وکبراءها، هم مجرّد متعلّمین لمبادئ التصوّف والزهد، تتلمذوا على أیدی هؤلاء الروّاد، حیث یبیّن بعض الباحثین مکانةَ الإمام علی بن أبی طالب (ع) لدى بعض رموز التصوّف، فیقول: "هذا التیار الهائل من النظریّة الصوفیّة برموزه المعروفة؛ بدءاً من الحسن البصری؛ وصولًا إلى رابعة العدویة؛ مرورًا بمحیی الدین بن عربی، والسهروردیّ، والجُنید، والرّفاعیّ، والکیلانّی، وغیرهم کثیر، قد اعتبروا الإمام (علیًّا بن أبی طالب) أستاذهم الأوحد، واتّخذه العرفاء والمرتاضون وأقطاب التصوّف بطلًا وقدوةً ورمزًا، وعلى هدی علومه ومعارفه أثروا الحضارة العربیّة الإسلامیّة بفیض من الفلسفات والکلام والشعر، لم یعرف مثله فی أیّة حضارة أخرى"[13].
وفی السیاق نفسه یقول أحد الباحثین فی فلسفة الزهد والتصوّف: "الإمام علی بن أبی طالب باب مدینة العلوم[14] والمواهب، کان مزیَّنًا بالزهد والورع، کُشف له الغطاء، وفُضَّت عنه الأستار، وفُتِحَت له کنوز العلم، فنهل منها ما شاء بدون حساب، هو قدوة المتّقین، وقطب العارفین"[15].
فنحن -إذًا- أمام روّاد وُصِفُوا بأنّهم سابقون فی العرفان والتصوّف، ومؤسّسون لبنائه، ومن معینهم اغترف الصوفیّة معارفهم ونظریّاتهم، فهم الأنموذج الفعلیّ والمصداق العملیّ والتجسید السلوکیّ لمظاهر الکمال المعنویّ الروحیّ بین الناس فی هذا العالم. وقد دلّت الروایات الشریفة وتوصیات الوحی على ضرورة التأسّی بهم، والائتمام بهم، واقتفاء آثارهم فی کلّ صغیرة وکبیرة؛ تجنّبًا للزیغ والانحراف، والتماسًا للخلاص والأمن. فعندما کان رسول الله (ص) یلحّ على الأمّة الإسلامیّة طیلة حیاته الدّعویّة، وإلى آخر لحظة من حیاته الشریفة، بأنْ تتولّى أوصیاءه من أهل بیته الشریف؛ قائلًا: "ترکت فیکم ما إنْ تمسکتم به لن تضلّوا بعدی أبدًا"، "الله الله فی أهل بیتی..."؛ فهو إنّما کان یشیر إلى ضرورة الاحتراز من الغرور والاغترار بالعلم والمعرفة ودعوى الکمال الروحیّ، بعیدًا عن نهجهم وصراطهم القویم؛ ما قد یجعل من صاحبه متوهّمًا امتلاک الحقیقة وحدَه، ووصوله إلى جوهر الدین والتدینّ، واستغناءه عن المرشد والولیّ أو الإمام المعصوم (ع)، وبأنّه لا یضعف ولا یعیى، مکتفیًا بمنهج حسبنا أنفسنا وعقولنا عن الوحی، حسبنا کتاب الله عن العترة[16]. إنّه تنبیه مبکّر منه (ص)، وتحذیر من الوقوع فی حالة من الاستغناء عن الإرشاد الوحیانیّ، الذی لا یمکن أن یتخلّله النقص أو التناقض أو المصلحة الخاصّة، والذی یضمن وحده عدم التّیه والضلال أو الانسیاق مع موجات التأویل ومتاهات التناقضات البشریّة، التی منشؤها تسلّط الأنانیّات الفردیّة وتوهّم الزعامة والقطبیّة بعد أشواطٍ من السیر والسلوک فی عوالم الریاضة الروحیّة، لکنْ مع الشطّ عن متارکة الأئمّة المعصومین (عله)، والاستبداد بالرأی، والاغترار بالقدرة الذاتیّة، والثقة فی العقل والنفس تحت مسمّى شعار: "حسبنا کتاب الله"!
فلا یُتصوّر عرفان قویم ما لم یتقیّد بهدایة الوحی الإلهیّ المتمثّل فی الکتاب والسنّة الصحیحة التی تمثّلها العترة الطاهرة (عله)، فهما معًا طریق الهدایة والنور والحقّ، وهما وحدهما سبیل تحقیق الغایات الکمالیّة التی ارتضاها الله -تعالى- للعباد؛ مصداقًا للحدیث المتواتر عند الفریقین: "ترکت فیکم ما إنْ تمسّکتم به لن تضلّوا بعدی أبدًا؛ کتاب الله، وعترتی أهل بیتی".
فقد یکون العرفان والتصوّف طریقًا إلى أنواع من العلوم والمعارف التی قد تخرج عن حدّ الشهود والحسّیّة، فهی آنئذٍ -حتمًا ومنطقًا وعقلًا- تحتاج من صاحبها ومن السالک طریقًا إلى ترشید المعصوم وتدخّله، وإلا قادته إلى الهلکة والضیاع الروحیّ والمعنویّ، ولنْ یکون مأمونًا ولا متیقّنًا أنْ تصبّ فی الکمال المرجوّ.
وغیر خافٍ أنّ کثیرًا من العلوم والمعارف الروحیّة والأسرار الغیبیّة لا یطیق تحمّلها الإنسان العادیّ، وقد لا یدرک محتواها ولا حقیقتها ولا کیفیّة التصرّف حیالها؛ إلا إذا استند إلى معارف أهل البیت (عله) وتوجیهاتهم. بل إنّ ثمّة من الحقائق والمعارف والدرجات المعرفیّة العرفانیّة ما لا یتحمّله حتّى المقرّب من الملائکة؛ کما جاء على لسان جبرئیل للنبی (ص) لیلة المعراج، لمّا بلغ إلى سدرة المنتهى وانتهى إلى الحجب، فقال: "تقدّم یا رسول الله، لیس لی أن أجوز هذا المکان، ولو دنوت أنملة لاحترقت!"[17]. فکیف للإنسان العادی أنْ یدّعی الاستقلالیّة والاعتماد على ذاته فی السیر إلى الله وسلوک طریق العرفان الخاصّ، من دون هدایة وترشید دقیق وواضح من الأئمّة (عله) العارفین العالمین بأسرار ذلک؟! مثلما أنّ کثیرًا من العلوم والمعارف المادّیّة نبغ فیها الإنسان وأعطى فیها الشیء الکثیر وحقّق إنجازات لم تکن متوقّعة ولا محتملة، لکنّها لم تصبّ سوى فی طریق النقیصة والشرور المنافیین لحقیقة الکمال وغایاته المرجوّة.
لذا؛ فإنّ سلوک طریق المعرفة الروحیّة وطریق العرفان یجب أن یکون مؤسّسًا ومحکومًا ومستندًا فی تفاصیله إلى معارف الوحی؛ بما هو قرآن وسنّة المعصومین (عله)؛ بوصفه السبیل الأوحد الذی یحقّق "الإحاطة بتمام التکامل للإنسانیّة والآفاق الممکنة لها، وهو أمر لا یحیط به وبتفاصیله العقل البشریّ الفطریّ المحدود، ولا العقل التجریبیّ، ولا العقول الأخرى"[18].
ثانیًا: العرفان وتهذیب النفس:
یمکن أنْ تؤول جمیع معانی العرفان وجمیع مدلولاته وأبعاده، وجمیع تفاصیله، مهما اختلفت المنطلقات والدراسات المنظور منها إلیه؛ سواء أکانت مدرسیّة تعریفیّة تبسیطیّة، أم کانت أکادیمیّة معمّقة وتخصّصیّة، تبحث فی تفاصیل العرفان ومصادیقه؛ فجمیع المعانی یمکن أنْ تؤول إلى حقیقة "معرفة الله التی تتوفّر فی ظلّها سعادة الدنیا والآخرة"[19].
فالغایة التی سعى وجاهد من أجلها جمیع الأنبیاء والرسل، وکذا الأولیاء والأوصیاء والصالحون، لا تخرج فی حقیقتها عن هدفیّة واحدة؛ وهی: "تربیة الإنسان وهدایته فی مسیرته من عالم التراب إلى عالم الملکوت الأعلى"؛ بهدفٍ یتمثّل فی "تشکیل المجتمع وإعداد بیئة لا یعبد فیها غیر الله تعالى، فتزیل أنوارُ العبودیّة والإخلاص والإیمان بالغیب، ظلمةَ الأهواء النفسانیّة والشهوات الدنیویّة، وتضیء أنظارَ البشریّة بنور جمال الحقّ فی عالم الوجود، وتعید حاکمیّة التوحید وأبعاده المتعالیة فی مختلف العلاقات والنشاطات الإنسانیّة. ومثل هذا لا یتیسّر إلا بتزکیة النفس، الشیء الذی یجهله حکّام الشرق والغرب، ویتعطّش إلیه عالم الیوم المنهک"[20]، حیث یکون الإنسان متحرّکًا تحرّکًا عمودیًّا فی طریق السیر والسلوک إلى الحقّ تعالى؛ بهدف الوصول إلى مقام لا یرى فی الوجود غیره تعالى.
إنّ العرفان لیس إلا ذلک السعی المخلص من العبد فی دنیاه من أجل التحرّر من صنمیّة الذّات وقهریّة النفس، أو ما یسمّیه السیّد روح الله الموسوی الخمینیّ بالهجرة من النفس إلى الله، حیث یعزم الإنسان على الخروج من بیت النفس وظلمانیّتها، وینطلق صادقًا مهاجرًا إلى الله ورسوله، متحرّرًا من أسر الدّنیا والطبیعة وسیطرة النفس والشهوات والغرائز، ومن أنانیّته الضیّقة، إلى مراتب ما یعرف عند العرفانیّین بـ "الموت المطلق" التی لا یعود فیها شیء من أنفسهم[21]، ویتحقّق الابتعاد عن بیت النفس أو بئرها العمیقة التی تجعل الإنسان لا یرى إلا نفسه، ولا یقیم وزنًا إلا لها، ولا یفکّر إلا فیها؛ بما یجعل منها "أعدى الأعداء، وهی أسوأ من جمیع الأعداء، وأکبر من جمیع الأوثان، بل هی أمّ الأوثان؛ لأنّ الإنسان یعبدها أکثر من سائر الأوثان، ویتوجّه إلیها أکثر من سائر الأوثان، وما لم یحطّم هذا الوثن فلا یستطیع أنْ یصبح إلهیًّا؛ إذ لا یمکن الجمع بین الله وبین الوثن، ولا یمکن الجمع بین الأنانیّة والإلهیّة"[22].
ولذا وجدنا الإمام الخمینیّ فی حرکته النهضویّة الإصلاحیّة، یرکّز على ضرورة الانتباه إلى هذا الخطر الکبیر، وعلى ضرورة المعرفة الدقیقة والواعیة بأقرب الأعداء إلى الإنسان؛ وهی النفس التی بین جنبیه، والعمل على مراقبتها وتتبّع أسالیبها المتنوّعة فی الإیقاع بالإنسان والسقوط به فی مدارک الجهالة والظلمانیّة والغفلة عن الحقّ.
یقول الإمام الخمینیّ فی إحدى توصیاته العرفانیّة: "واعلم أنّ جمیع ما یحلّ ببنی آدم من مصائب ناشئٌ من الإرث الشیطانیّ؛ فهو أصل الفتنة، وربّما تشیر الآیة الکریمة: {وقاتلوهم حتى لا تکون فتنة ویکون الدین لله}[23]، فی بعض مراحلها ومستویاتها إلى الجهاد الأکبر، وقتال أساس الفتنة؛ وهو الشیطان وجنوده. ولهؤلاء فروع وجذور فی أعماق قلوب بنی الإنسان کافّة، وعلى کلّ إنسان أن یجاهد حتّى لا تکون فتنة داخل نفسه وخارجها، فإذا حقّق هذا الجهادُ النصرَ؛ صلحت الأمور کافّة وصلح الجمیع"[24]. فتکون حقیقة العرفان -إذًا- ماثلةً فی السعی المخلص والاجتهاد الواعی نحو تحقیق النصر؛ ولو فی بعض مستویاته، على جبهة النفس، عبر التمکّن من الحدّ من الأهواء النفسانیّة. هذه المرحلة تُعدّ شرط کلّ سلوک عرفانیّ، وبدایة کلّ حرکة نحو إصلاح الحال. فلا یمکن لأیٍّ کان أنْ یدّعی إمکانیّة أنْ یحقّق تطوّرًا على مستوى السیر إلى الله والارتقاء فی مدارج الکمال؛ ما لم ینجح فی تحقیق مستویاتٍ من هذا الانتصار الأوّلیّ، وهو فی الحقیقة لیس أوّلیًّا، بل هو الهدف والغایة من العرفان؛ لأنّ جوهر هذا الأخیر أنْ یحقّق العبد التحرّر من حبّ النفس والعجب، والانطلاق فی ما یعبّر عنه العرفاء "بالسفر من الخلق إلى الحقّ تعالى، ومن الکثرة إلى الوحدة، ومن الناسوت إلى ما فوق الجبروت"[25].
إنّ حقیقة العرفان هی جوهر تخلیقیّ تهذیبیّ محدّد ومشروط بضوابط دینیّة عقدیّة، تتجاوز الضوابط العرفیّة أو الاجتماعیّة التی قد تکون فی ذاتها تهذیبیّة، لکنّها خارجة عن ضوابط التدیّن والاعتقاد الوحیانیّ. والعرفان معرفة عملیّة سلوکیّة تتجاوز المستوى المعرفیّ التنظیریّ الخالص، وهو ذو غایة تهذیبیّة قوامه العمل على إصلاح النفس وتطویعها والارتقاء بها نحو مدارک الکمال والصلاح والطهر المعنویّ؛ بما هی حالة فطریّة فی الطبیعة الإنسانیّة؛ لأنّ الغایة العظمى والهدف الأسمى من هذا الوجود؛ إنّما هو تحصیل المعرفة الشهودیّة التی لا یرى العارف فیها أیّ شیء فی الوجود سوى الحقّ -تعالى- وأسماءه وصفاته[26].
ثالثًا: العرفان والعمل:
فی مدرسة الأئمّة من أهل البیت (عله) لا ینفصل العرفان عن العمل، ولا یمکن اعتبار ممارسة العرفان والتفرّغ للریاضة النفسیّة بعیدًا عن مقتضیات الحیاة ومتطلّبات الکدح الیومیّ؛ ممارسةً عرفانیّة، بل إنّ الاکتفاء بالخلوة، والانعزال للتعبّد، وإعلان الاستقالة الطوعیّة عن مهام الحیاة ومتطلّبات الکدح لیُعدّ من صمیم الانحراف، ووجهًا من وجوه الزیغ عن سواء السبیل.
إنّ التهذیب الحقیقیّ للنفس، والتطویع الحقّ فی سبیل السیر السلوکیّ العرفانیّ التامّ، لا یتمّ ولا یتحقّق إلا بکدح حقیقیّ وصبر وجهاد ومثابرة، وباقتحام مجالات الحیاة ومواجهة مشاکلها والمساهمة الفاعلة والدؤوبة والجادّة فی بناء الحضارة وخدمة الإنسانیّة؛ أی إنّ العرفان یحوز قیمته، مضافًا إلى امتلاک الحالات وتحصیل الملکات النفسانیّة، وتمثّل الأفکار العقلیّة والحالات الروحیّة العالیة، من سِمَته العملیّة ومن أفعال الإنسان الداخلیّة والخارجیّة، لیس فی بعدها الذاتیّ الفردیّ المحض، وإنّما من جانب بعدها الاجتماعیّ الحرکیّ فی المجتمع، والصبر على مشاقّ المواجهة، ولیس الفرار أو الرکون إلى التی هی أخفّ وأسهل.
ویُعدّ السیّد روح الله الموسویّ الخمینیّ أحد أبرز روّاد النهضة الذین أعادوا للعرفان فی الفکر الإسلامیّ المعاصر مفهومه الحقیقیّ، وأعطوه دفعةً جدیدةً، أخرجته من دائرة المعارف النظریّة والاصطلاحات الملْغِزة، التی تراد لذاتها ویتیه الباحث بین مصطلحاتها ومفهوماتها المجرّدة، إلى حقیقة عملیّة سلوکیّة، تحوز قیمتها الحقیقیّة من جانب وظیفتها السلوکیّة، ومن جانب دورها فی توجیه الفرد؛ لیکون شخصا ًتکاملیًّا، یسعى نحو التجرّد من أنانیّته وإنّیّته الضیّقة والمهلکة، ویسیر فی اتّجاه طهرٍ معنویّ روحیّ یتخلّص فیه من نقائص الأخلاق وذمیم الفعال فی جمیع حرکاته وسکانه.
فالعرفان یحوز قیمته -إذًا- من جانب فاعلیّته الاجتماعیّة؛ بالنظر إلى أنّه یصبح طریقًا موصلًا آلامَ الفرد بآلام الآخرین، وجسرًا لإشراکه فی حاجاتهم ومعاناتهم، وجمیع منغّصات عیشهم؛ فهو بعبارة الدکتور علی شریعتی: "وسیلة لتلقین النفس، کیف تظلّ على تطلّع دائم إلى الأهداف والطموحات الإنسانیّة السامیة"[27].
ولقد تنبّه الإمام الخمینیّ إلى انحراف العرفان عن معناه فی ممارسة کثیرین، حینما أشار إلى أنّ "هناک فئة من الناس ظنّوا أنّ معنى العرفان هو أنْ یجد الإنسان محلًّا، ویتلوَ ذکرًا، ویحرّک رأسًا، ویتمایل، وغیر ذلک... هذا هو معنى العرفان. إنّ أعلى مراتب العرفان کان یحوزها الإمام علیّ (ع)، ولم یکنْ لمثل هذه الأشیاء من وجود فی سلوکه. لقد تخیّلوا أنّ الشخص العارف یجب أن یعتزل کلّ شیء، ویتنحّى جانبًا، ویتلو ذکرًا، ویتغنّى حینًا، ثمّ یفتح دکّانًا!...إنّ أمیر المؤمنین (ع) فی الوقت نفسه الذی کان فیه أعرف الخلق بعد رسول الله (ص) فی هذه الأمّة، وأعرف خلق الله بالحقّ تعالى، مع ذلک فإنّه لم یتنحّ جانبًا، ولم یفعل شیئًا عبثًا. لم یکنْ له فی أیّ وقت حلقة ذکر... کان مشغولًا بأعماله. ولکنْ یُتَخَیَّل أنّ أهل السلوک لا شأن لهم بالناس الآخرین، کلّ ما یجری فی المدینة فلیجرِ، فأنا من أهل السلوک... لأذهب وأجلس فی زاویة وأتلو وردًا..! وهذا هو السلوک بحسب قولهم. إنّ السیر والسلوک کان فی الأنبیاء (عله) أکثر من غیرهم، وفی الأولیاء أکثر من غیرهم، لکنّهم (الأنبیاء والأولیاء) لم یذهبوا إلى بیوتهم لیجلسوا ویقولوا نحن أهل السلوک"[28].
وعلى عکس هذا الفهم والتطبیق غیر السلِیمَیْن، فالعرفان الحقّ یمثّله الأئمّة الأطهار (عله)، فهم جمیعهم أمثلة ونماذج وقادة فی جمیع مناحی الحیاة الخاصّة والعامّة یجسّدون العرفان الثّوریّ أو عرفان العبادة والتمسّک بالعدالة. لقد کان زهدهم زهدًا ثوریًّا وزهدًا علویًّا؛ من أبرز معانیه "أن تتحمّل الفقر لمکافحة الفقر، وتصبر على الجوع لتکافح الجوع، والتنازل عن الخبز الشخصیّ من أجل توفیر خبز الناس، والتنازل عن اللذّات والحیاة الشخصیّة، وتخفیف المعیشة، والبساطة، والاستغناء، والاکتفاء بلقمة الخبز والملح، وسدّ جوعه وجوع عائلته بالقلیل من أجل إشباع جیاع الناس، وتخفیف الحمل؛ لکی ینطلق فی خدمة المجتمع دونما إحساس بقیود الحیاة الشخصیّة"[29]. وهذا یشیر إلى ضرورة جعل العرفان سلوکًا عملیًّا فی الممارسة الیومیّة للفرد، وجعله من ضمن تحرّکاته الدنیویّة بین الناس فی المجتمع. فهو یتصرّف وفق مقتضیات الاستحضار الدائم للحقّ -تعالى-، والمراقبة الدقیقة لجمیع حرکاته وسکانه، والمعاینة الموجِّهة لکیانه وعقله وجوارحه.
ویشیر السیّد محمد باقر الأبطحیّ فی تقدیمه للصحیفة السجّادیّة، إلى أنّ أدعیة الإمام زین العابدین السجاد (ع) "کانت ذات وجهین غایة فی الارتباط والتکامل: وجهٍ عبادیٍّ، وآخر اجتماعیٍّ یتّسق مع مسار الحرکة الإصلاحیّة التی قادها الإمام فی ذلک الظرف الصعب، فاستطاع بقدرته الفائقة المسدّدة أنْ یمنح أدعیته -إلى جانب روحها التعبّدیّة المعطاء- محتوًى اجتماعیًّا متعدّد الجوانب؛ بما ضمَّنها من مفاهیم خصبة وأفکار نابضة بالحیاة"[30].
فالإمام زین العابدین (ع) على الرغم من المحن الشدیدة التی کان یمرّ فیها، وحالة المضایقة والتهمیش التی فُرِضَت علیه، وإبعاده عن الناس وإبعاد الناس عنه، وحیلولة السلطة السیاسیّة الأمویّة دون القیام بدوره کاملًا فی المجتمع... نجد أنّه یثمّر الدعاء والتوسّل والمناجاة، لینخرط فی شؤون المجتمع، ویساهم فی تربیة الناس وتوجیههم وترشید حرکتهم فی الحیاة، للسیر بهم نحو التکامل المطلوب. فکانت الصحیفة السجادیة (زبور آل محمد) من أبرز الوثائق التی تثبت حیویّة العرفان الإسلامیّ وفاعلیّته، وتؤکّد مدى ارتباطه بالحیاة وبهموم الناس والمجتمع، فهی أسلوب مبتکر فی إیصال الفکر الإسلامیّ والمفاهیم الإسلامیّة الأصیلة إلى القلوب[31].
وهذا یؤکّد أنّ العرفان وحرکة الذکر والدعاء وسلوک المناجاة والتوسّل العرفانّی، لیست أمورًا محدودة قیمتها ووظیفتها فی نطاق فردیّ وخاصّ؛ بل هی ممتدّة من أجل تحقیق هدف اجتماعیّ أوسع؛ هو تعلیم المرء کیف یکون إنسانًا. فعبره یتمّ تلقین الفرد النشید الروحیّ الموحی بالعمل الإیجابیّ وبالحرکة نحو الآخرین[32]. ولعلّها المرتبة التی تسعى جمیع الحرکات الإصلاحیّة التی تقوم فی المجتمعات من أجل الوصول بالإنسان إلیها.
رابعًا: العرفان والعلم:
إنّ الاشتغال بأیّ نوع من أنواع العلوم، لا یمکن أنْ ینفصل عن جوهریّة العرفان؛ مثلما أنّ حالة العرفانیّة لا یمکن أنْ تُنال بالانتساب أو الادّعاء أو المعرفة النظریّة، فمهما تکنْ دقّة المطالب العرفانیّة التی قد یبحث فیها الفرد وقد یتعمّق فی تعریفها وتبیینها والاستدلال علیها؛ فلا یمکن لذلک کلّه أنْ یُوجد حقیقة الإنسان العارف؛ ما لم تتجسّد فیه معانی العرفان الحقّ، وما لم یحقّقْها سلوکیًّا فی حیاته الخاصّة والعامّة، والظاهرة والباطنة. بل إنّ کثیرًا من المفاهیم والمصطلحات إذا ابتغاها الفرد لذاتها ولم یجعل منها وسیلةً إلى إصلاح نفسه وتحقیق العبودیّة الحقّة لله -تعالى- فی حیاته، قد تغدو وبالًا علیه، ولا تزید إلا من ظلمانیّته وبُعده عن العرفان الحقّ.
لقد رأى الإمام الخمینی أنّ الانشغال بالعلوم "حتّى العرفان والتوحید، إذا کان لاکتناز الاصطلاحات -وهو حاصل- أو لأجل تلک العلوم؛ فإنّه لا یقرّب السالک من الهدف، بل یبعده عنه (العلم هو الحجاب الأکبر)"[33]. وهذا الأمر نفسه هو ما یوصی به -أیضًا- إحدى الطالبات العارفات (وهی زوجة ابنه السیّد أحمد)، حین سألته أنْ یرشدها إلى أهمّ الکتب العرفانیّة المساعدة فی سبیل السیر والسلوک، فأجابها: "ابنتی اهتمّی برفع الحجب، لا بجمع الکتب.. (قولی لی) إذا نقلت الکتب العرفانیّة والفلسفیّة من السوق إلى المنزل، من مکان إلى مکان، أو جعلت نفسک مخزنًا للألفاظ والاصطلاحات، وعرضت فی المجالس والمحافل ما فی جرابک، وخدعت الحُضَّار بمعلوماتک، وزدت ثقل حملک بخداع الشیطان والنفس الأمّارة الأخبث من الشیطان، وأصبحت بلعبة إبلیس زینة المجالس، وتبعک -لا سمح الله- غرور العلم والعرفان، وسیفعل، فهل بهذه المحمولات الکثیرة زدت الحجب أم خفّفتها؟!"[34].
فحین ندرک حقیقة العرفان، ونتمثّل جوهریّته فی منظومة التفکیر عند الإمامیّة، فإنّنا ندرک أنّه یجمع بین کونه حالة سلوکیّةً وتجسیدًا تربویًّا قولیًا وفعلیًّا وعقدیًّا لمقتضیات الوحی، وسیرًا واعیًا ودقیقًا نحو غایات الشریعة ومقاصدها، وهو تبعًا لذلک، لا یمکن أنْ یغادر فرعًا من فروع الحیاة، ولا یمکن أن یُفتقد أو یستغنى عنه فی أیّ حرکة من حرکات الإنسان؛ علنیّةً کانت أم سرّیّةً.
إنّ من مقتضیات شمولیّة العرفان وهیمنته، أنّه فی مجالات العلم والمعرفة، ومهما یکنْ نوعها وتخصّصها، ومهما تتّخذ المعرفة والبحث العلمیّ منحىً محسوسًا وتجریبیًّا، ومهما تکنْ دقّة تخصّصها المادّیّ المحض؛ فإنّها من منظور العرفان یجب أنْ تظلّ مؤطّرة ضمن دائرة التوحید، وخادمة غایات الکمال والرقیّ المعنویّ، وسببًا للوصول إلى مراتب الطهر والخلاص الروحیّ، مثلما وجب أنْ تکون وسیلةً لخدمة مشروع الحکومة الإلهیّة فی الأرض، وطریقًا نحو تأمین سعادة البشریّة والموجودات کلّها؛ فی الدنیا والآخرة.
فالمعارف التخصّصیّة الدقیقة فی الطبیعیّات، والریاضیّات، والطبّ، والهندسة، وغیرها من العلوم التی لا تکاد تحدّ، لیست مدروسة ولا مطلوبة لذاتها، بل إنّ الإسلام یؤطّرها بالتوحید، ویرجع الطبیعة بأسرها وجمیع الظلال الظلمانیّة إلى ذلک المقام النورانیّ الأخیر الذی هو مقام الألوهیّة. فلیس للإسلام نظر استقلالیّ للعلوم الطبیعیّة؛ لأنّ العلوم کلّها، وفی أیّ مرتبة کانت، یرید لها الإسلام أنْ تخدم التوحید، "فما هی إلا ورقة فی هذا العالم؛ بل هی أرقّ الأوراق فیه. إنّ العالم من مبدأ الخیر المطلق حتّى نهایته موجود حظّه الطبیعیّ نازل جدًّا، وجمیع العلوم الطبیعیّة نازلة جدًّا إزاء العلوم الإلهیّة"[35].
ومهما یکن الاقتراب من الدین، أو یکن الاشتغال أو التخصّص فی فروع الدین والعقیدة، فإنّ التّحرّک وفق غایات التهذیب والسیر فی طریق الکمال الروحیّ والطهر المعنویّ، یبقى فی مقدّمة الاهتمامات، بل هو الحاکم العامّ والمهیمن على کیان طالب العلم والمعرفة وتفکیره؛ مهما تکنْ دقّة تخصّصه.
وفی کلمته لطلبة العلم فی الحوزات العلمیّة وللطلبة الجامعیّین یخاطبهم الإمام الخمینیّ قائلًا: "فأنتم على علم بمدى التّقدم العلمیّ الذی أحرزتموه، وحجم المعارف التی اکتسبتموها فی هذا العام الدراسیّ. ولکنْ ما الذی فعلتموه بالنسبة إلى تهذیب الأخلاق، وتزکیة النفس، وتحصیل الآداب الشرعیّة والمعارف الإلهیّة؟ أیّة خطوة إیجابیّة خطوتم؟ هل کان لکم برنامج لذلک؟"[36]. بل إنّ الإمام، ومن موقع خبرته ومعاینته الواقع الفعلیّ للناس، لیسارع إلى الإجابة الصریحة الواضحة قائلًا: "للأسف لا بدّ لی من القول بأنّکم لم تنجزوا عملًا یستحقّ الذّکر، ولم تقطعوا شوطًا یذکر على طریق إصلاح نفوسکم وتهذیبها"[37].
ویتّضح من هذا الکلام کیف یمیّز الإمام بین حقیقة تحصیل العلم والاجتهاد، والمراتب التی یمکن أن یحوزها الإنسان فی ذلک، وبین البعد العرفانیّ لطلب العلم؛ وذلک بأنْ یکون طلب العلم وسیلة لتهذیب النفس، وتحصیل الصلاح، والارتقاء التکاملیّ فی سلَّم الطهر المعنویّ. فطلب العلم فی حدّ ذاته لا یمکن أنْ یکون غایة عرفانیّة؛ مهما تکنْ أنواع العلوم المدروسة، ومهما تکنْ تسمیاتها ومستوى قربها من العلوم الشرعیّة. فالمدرسة والجامعة والحوزة العلمیّة وغیرها من مجالات تحصیل المعرفة والعلوم؛ جمیعها مطالبة بأنْ تکون فی صمیم السلوک العرفانّی، وأنْ تکون مهمّتها تعلیم وتعلُّم المسائل الأخلاقیّة والعلوم المعنویّة وتهذیب النفوس وتطهیر الروح، لتربیة علماء أخلاق وتخریج مربّین ومهذّبین متّقین وربّانیّین؛ أی عرفاء أو عرفانیّین، یُطمأَنُّ إلیهم فی الفضیلة والأخلاق والصلاح، ویمکن التعویل علیهم فی هدایة الآخرین وترشیدهم، وفق الطریقة المثلى التی رسمها الوحی، وجسّدها الأئمّة (عله).
إنّ واجب العالم وطالب العلم أنْ یبتغی من فعله تحصیل آثار العلم وتحقیق صفات الحقّ فی النفس، فالمعارف والعلوم؛ مهما سمّیت فقهیّة، أو عقدیّة، أو أصولیّة، وحتّى حدیثیّة، أو قرآنیّة تفسیریّة، إذا بقیت فی مستوى الاصطلاحات والمفاهیم السطحیّة الحاجبة صاحبها عن الحقّ، والتی لا یُرجى منها تغییر فی النفس ولا فی أحوال صاحبها، هی فی حقیقتها لیست بمعارف؛ فحقیقة المعرفة وحقیقة العلم أنْ یکون عرفانًا "یحیل القلب إلى محلّ تتجلّى فیه أسماء الله وصفاته، وینزل فیه السلطان الحقیقیّ الذی یمحو آثار التلوّث... (و)یجعل القلب أحدیًّا أحمدیًّا"[38].
فأهمّیّة أیّ علم وأیّ فرع من فروع المعرفة فی أنْ یُرى مرتبطًا بالعمل، وأنْ یصلح المفاسد الأخلاقیّة، ویهذّب النفوس والعقول، ویوجّه الأفعال والسلوکات، ویتساوى فی ذلک عالم الدین المتخصّص فی العلوم الشرعیّة، والطالب أو الأستاذ الجامعیّ المتخصّص فی قضایا فکریّة، والمنشغل بفروع بحث أکادیمیّة، قد تبدو دنیویّة وعصریّة وتقنیّة محضة.
إنّ جوهر العلم بمیزان العرفان أنْ تکون معرفة العبد واجتهاده فیه لله -تعالى- وفی سبیله، وأنْ تتحرّک نفسه وجوارحه فی هذا السبیل، وأنْ یُخضِع نفسه لمراقبةٍ وتتبّعٍ دقیقین؛ بما یضمن للنفس تخطّی الحجب الظّلمانیّة وتحصیل الأهلیّة للدخول فی ساحة الرّحمانیّة، وإلا فلا فائدة من العلوم التی یحصّلها الفرد، ولا قیمة لمعارفه ومصطلحاته وکتبه؛ مهما کثرت وتعدّدت عناوینها ومضامینها، فإذا لم یتخلّص الإنسان من الخبائث، "فإنّه مهما درس وتعلّم لنْ یکون علمه مفیدًا، ولیس هذا فحسب، بل سیکون مضرًّا. فالعلم عندما یَرِد أرضًا خبیثةً، سوف ینبت نبتًا خبیثًا ویصبح شجرة خبیثة. وکلّما تکدّست هذه المفاهیم فی القلب المظلم غیر المهذّب، ازدادت الحجب أکثر فأکثر؛ فالعلم فی النفس التی لم تتهذّب یکون حجابًا مظلمًا (العلم هو الحجاب الأکبر). ولهذا کان شرّ العالم الفاسد بالنسبة إلى الإسلام أخطر وأعظم من الشرور کلّها"[39].
خامسًا: العرفان والبُعد الاجتماعیّ:
للعرفان فی المدرسة الإسلامیّة الأصیلة، وفی مدرسة أهل البیت (عله) تحدیدًا، بُعده الاجتماعیّ الضروریّ، بالنظر إلى أنّ لِجوهر التهذیب المراد للنفس جانبین؛ جانب لازم ذو علقة بذات الفرد فی خلوتها تعبّدًا وتنسّکًا واعتقادً وشعائر فردیةًّ، یکمله جانب آخر ذو بعد اجتماعیّ، من حیث إنّ حقیقة کمال الفرد لا یمکن أن تتحقّق ما لم یحز کمالًا فی المجتمع، ومن جانب علاقته بالآخرین، فعلاقة المسلم بغیره علاقة عضویّة تنشد التکامل[40].
إنّ العرفان الحقّ تبدو أولى ثمراته الطیّبة حین یقتنع روّاده بأنّ قیمته الحقیقیّة تکمن فی الانشغال بالواقع وبحاجات الناس وبهمومهم، وفی مشارکتهم نوائب الدهر ومکاره العیش. کما یؤمن المنهج العرفانیّ الحقّ بأنّ الغایة الإنسانیّة الکبرى لیست فی عزلتها ولا فی تمتیع الذات الفردیة بما تطلبه وترغب فیه؛ بل فی تجسید قیم الخیر والصلاح فی المجتمع، وفی القدرة على الخروج من سجن الذات الضیّق والانفتاح على الآخرین، وتحقیق المجتمع المتآلف السائر نحو الوحدة المجسِّدة لمظاهر التوحید. وهی العلاقة التی یتوجّب أنْ یأمن فیها الآخر من جمیع شرور الذات ونقائصها، وبالمقابل یتحصّل منها المنفعة والخیر والمساعدة والنفع بجمیع أصنافه.
وهکذا یکون العرفان فی بُعده الاجتماعیّ منضویًا تحت حقیقة: "المسلم من سلم الناس من یده ولسانه"[41]، فلا یتملّکه العجب ولا التکبّر، ولا یفرح بمدیح، ولا یبخل بمعروف، ولا یؤذی أحدًا فی حضور أو غیاب، فحقیقة العرفان الاجتماعیّ أنْ یُرى الإنسانُ إنسانًا حقیقیًّا، یَرى الناس کلّهم أحباءه، ویبادر إلى حسن التواصل معهم؛ لأنّهم عیال الله: "والخلق کلّهم عیالک"[42].
وفی نظام الإسلام الأصیل لا یوجد أحد یمکن أنْ یدّعی أنّه غیر معنیّ بشؤون المجتمع؛ کما یشیر السیّد الخامنئیّ فی بعض کلماته: "یجب على الجمیع أنْ یشعروا بأنّهم مکلّفون بالنسبة إلى مصیر المجتمع، وأنْ یبحثوا عن تکلیفهم"[43]، فلا یمکن للمجتمع أنْ یرتقی نحو مدارج الکمال الروحیّ والفکریّ، ولا یمکن تحقیق السعادة الإنسانیّة، ولا توفّر أجواء من الأمن والأمان؛ ما لم یکن الجانب الاجتماعیّ فی الأمّة سالکًا سبلَ النهوض الأخلاقی والتربیة الروحیّة المتکاملة.
بل إنّ ممارسة الشعائر التعبّدیّة على صورتها الصحیحة، ووفق فلسفتها العمیقة المتواشجة مع فلسفة الدین الحقّ، ومع مرامیه الحضاریّة الخالدة، وأغراضه الإنسانیّة الرحبة، تغدو من أهمّ مقوّمات البناء السلیم للمجتمع القویم وعناصره الأساس.
إنّ العبادات جمیعها، لا تنفصل عن غایاتها الاجتماعیّة ومرامیها البنائیّة. فمثلما أنّ الصلاة مطلوبة فی المساجد مع الجماعة؛ ترسیخًا لمبدأ التواصل والتلاقی المستمرّ بین المصلّین، وتفعیلًا لمبادئ التساوی والتکافؤ بین الأفراد، ودرءًا لأحاسیس الفوقیّة والتکبّر ومشاعر العلوّ، وکذلک الزکاة فهی فریضة تؤخذ من الأغنیاء وتردّ إلى الفقراء، والحجّ یُعدّ مهرجانًا سنویًّا وعالمیًّا للمسلمین، یتشاورون فی ما بینهم ویتدارسون شؤون دینهم ودنیاهم، ویمارسون طقوسه بشکل موحّد؛ إشعارًا بتساویهم وتشابههم فی حقیقة إنسانیّتهم، والصوم عبادة جوهرها تحقیق التواصل بین الأفراد وتنمیة روح الإحساس بالجائعین والمحرومین من أبناء المجتمع.
یقول الإمام علی بن أبی طالب (ع) فی وصیّته لابنیه (علیهما): "... وَکُونَا لِلظَّالِم خَصْمًا وللِمَظْلُوم عَونًا... أُوصِیکُمَا، وجَمِیع وُلْدِی وأَهْلی ومَن بَلَغَه کِتَابِی، بِتَقْوى الله ونظْم أَمْرکُم، وصَلاَح ذَاتِ بَیْنکُم، فإنّی سَمعت جَدّکما (ص) یقول: صَلاَح ذَاتِ البَیْن أَفْضَل مِن عَامّة الصَّلاة وَالصِّیام. الله الله فی الأَیْتَام، فَلاَ تَغبُّوا أَفْوَاهَهم، ولاَ یَضِیعُوا بِحَضْرَتکُم. والله الله فی جِیرَانِکُم، فإِنَّهُم وَصِیَّة نَبِیّکُم... وعَلَیْکُم بالتَّوَاصُل والتَّبَاذل، وإِیّاکُم والتَّدَابر والتَّقَاطُع"[44].
ویوجّهنا الإمام السجاد (ع) من خلال مقطع دعائیّ مختصر إلى هذا العمق الاجتماعیّ للتعبّد والذِکْر والعرفان، وهو أنْ یدرک الإنسان واجباته الإنسانیّة تجاه الآخرین، ویُدرک حجم مسؤولیّته ضمن المحیط الذی یتواجد فیه: "اللّهم إِنی أَعتَذرُ إِلیْک مِن مَظلُومٍ ظُلم بِحضْرتِی فلم أَنصُرْه، ومِن معْرُوفٍ أُسدِیَ إلیَّ فَلمْ أَشکُرْه، ومِن مُسِیءٍ اعتَذرَ إِلیَّ فلم أَعذُرْه، ومن ذِی فَاقةٍ سألَنِی فلَم أُوثِرْه، ومن حقِّ ذِی حقٍّ لزمنِی لمؤمن فلم أُوَفِّرْه، ومن عَیبٍ ظهَر لِی فلمْ أَسْتُرْه"[45].
فهو یضعنا أمام صور رائعة من صور الأنموذجیّة ونکران الذات مطلوبًا أن تتحقّق فی الفرد العادیّ، وفی المسؤول أو القدوة تجاه الغیر؛ نصرته إنْ ظلم، وشکره على المعروف، والتماس العذر إلیه فی الخطأ، وقضاء حاجاته، وتأدیة الحقوق إلیه. وهذه فی الحقیقة أخلاق تُستمدّ من الأخلاق الرفیعة التی أقرّها الإسلام، وحاول الأئمّة الهاشمیّون ترسیخها؛ قولًا وسلوکًا. فالإنسان فی حقیقته مُطالبٌ بأنْ یکون تجلّیًا من تجلّیات الرحمة الإلهیّة فی الأرض، حیث یرتقی الفرد إلى مستوى الإنسان الأنموذج، أو "الإنسان الربّانیّ"، أو "الإنسان الکامل"[46].
وفق هذه الامتدادات یغدو العرفان نهجًا تواصلیًّا فاعلًا حائزًا سمته الاجتماعیّة الواضحة؛ بوصفه مدرسة تعلّم الناس أسس العلاقة التکاملیّة بین بعضهم بعضًا، فی طریق بناء المجتمع السلیم والقوی والمتآلف؛ لأنّ أساسه ترسیخ العقیدة فی نفوس الناس، وتوجیه اهتمامات الإنسان نحو إصلاح العلاقة بینه وبین الله أولًا، ثمّ الانطلاق لإقامة علاقات متمیّزة ومتینة بین أفراد المجتمع، ومن ثمّة إمکانیّة الحدیث عن فرص النجاح والتمیّز فی جمیع المجالات والصعد؛ لأنّ الإنسان الصالح یبقى هو المحور وقطب الرحى فی ذلک کلّه.
سادسًا: العرفان والبُعد السیاسیّ:
یُعدّ المجال السیاسیّ من أهمّ المجالات التی تمتدّ إلیها دلالات العرفان فی المدرسة المحمّدیّة الأصیلة، بل إنّ السیاسة لتتموضع فی مقدّمة القضایا التی تستوجب تجسید حقیقة العرفان وتطبیق مبادئه الصحیحة، فلا مجال لمقولة إنّ "السیاسة هی فنّ الکذب"، ولا لمقولة "فی السیاسة إنّ الغایة تبرّر الوسیلة"، ولا لمقولة "السیاسة أمّ المصالح تدور معها حیث دارت سلبًا أو إیجابًا"، وغیرها من المقولات التی هی فی الحقیقة مجرّد إفراز من إفرازات الاحتکام إلى إملاءات المناهج الوضعیّة العلمانیة فی تدبیر الشأن العامّ. وعلى العکس من ذلک تمامًا، فإنّ السیاسة من منظار المنهج العرفانیّ هی من أکثر المجالات حاجة إلى التخلیق، وممارسة الشأن العام، وتحمّل مسؤولیّة الناس فی المجتمع، والسهر على قضاء حاجاتهم، وتمکینهم من حقوقهم، وقیادتهم نحو سبل تنفیذ واجباتهم، تجاه أنفسهم وتجاه الآخرین ومجتمعهم، وتعریفهم بواجباتهم تجاه خالقهم؛ إنّ جمیع هذه الأمور، وما یتفرّع عنها، لهی بحقّ أحوج ما تکون إلى رؤیة عرفانیّة دقیقة وحقیقیّة، حتّى تؤتی السیاسة أُکلها، وتثمر نتائج إیجابیّة فی المجتمع البشریّ، وإلا کانت وبالًا على العباد، وقادتهم نحو متاهات الانحراف والفساد والتیه على جمیع الأصعدة. وتبعًا لهذا المدلول الإیجابیّ للعرفان، وتأسیسا له؛ وجدنا أنّ الإمام روح الله الخمینیّ ینتقد بشدّة تلکم الفئات والتوجّهات التی کانت تؤمن بوجود مسافة ما بین العرفان والسیاسة، وترى إمکانیّة الاعتزال والبُعد عن الواقع السیاسیّ لممارسة التعبّد، وتنفیذ البرامج الترویضیّة للنفس؛ طلبًا للکمال الروحیّ. فقد رأى أنّ العرفان الحقیقیّ لا یناقض ولا یبرّر لصاحبه ومدّعیه الابتعاد عن الانخراط فی السیاسة، والدخول فی شؤون المجتمع، وتحمّل المسؤولیّات السیاسیّة والاجتماعیّة، فاعتبر أنّه "لا الاعتزال الصوفیّ دلیل الارتباط بالحقّ، ولا الدخول فی المجتمع وتشکیل الحکومة شاهد الانفصال عن الحقّ"[47].
وفی هذا الصدد یمکن أنْ نعتبر هذه الرؤیة المؤسّسة لعرفان حضاریّ إیجابیّ مشارک فی الحیاة وممارس لدوره بین الناس، بمنزلة ردٍّ على رؤى سلبیّة تبنّتها کثیرٌ من التوجّهات فی العالم العربیّ والإسلامیّ، التی اعتقدت أنّ العرفان "هو فی جانب منه موقف من العالم، موقف نفسیّ وفکریّ ووجودیّ؛ لا بل موقف عامّ من العالم، یشمل الحیاة والسلوک والمصیر. والطابع العامّ الذی یسم هذا الموقف هو الانزواء والهروب من العالم، والتّشکّی من وضعیّة الإنسان فیه"[48]. ورأت أنّ الموقف العرفانّی کان دائمًا موقف هروب من عالم الواقع إلى عالم العقل المستقیل، کلّما اشتدّت وطأة الواقع على الفرد الذی لا یعرف کیف یتجاوز فردیّته، ویجعل من قضیّته الشخصیّة قضیّة جماعیّة، وإنْ لزم الأمر قضیّة إنسانیّة[49].
مثل هذا الموقف السلبیّ من العرفان راجع إلى تطبیقاته الخاطئة فی تجارب عدیدة فی المجتمع العربیّ الإسلامیّ. ولذلک، فإنّ ما طرحه الإمام الخمینیّ إنّما کان بهدف تصحیح هذه النظرة، وإعادة العرفان إلى سکّته الصحیحة؛ بوصفه مساهمة تربویّة وجوهر تخلیقیّ غایته ضبط السلوک العامّ للفرد فی الحیاة، وهو النهج الذی تحکّم فی الأنبیاء والرسل والعرفاء الصالحین عبر التاریخ، فقد کانوا بشرًا یأکلون الطعام ویمشون فی الأسواق، ویتزوّجون وینجبون، وینظّمون أحوال الناس فی المجتمع، ویقیمون أسسه، ویقودون الجیوش...
ففی مجال السیاسة تزداد حتمیّة السلوک العرفانیّ. والإنسان فی نهایة المطاف معنیّ ومطالب بتجسید حقیقة العبودیّة لله -تعالى- فی أیّ مجال من مجالات الحیاة؛ بما فیها الحیاة السیاسیّة. و"إذا أراد السالک أن تکون تسمیته حقیقیّة، فلا بدّ له من أنْ یوصل مراحم الحقّ -تعالى- إلى قلبه، ویتحقّق بالرّحمانیّة والرّحیمیّة، وعلامة ذلک حصول نموذج منها فی القلب أنّه ینظر إلى عباد الله بنظر العنایة والتلطیف، ویطلب الخیر والصلاح للجمیع، وهذا هو نظر الأنبیاء العظام والأولیاء والکُمّل (عله)"[50]. وهذا ما یستفاد من کتاب أمیر المؤمنین إلى أحد أمرائه وولاته على الأمصار: "أَمَا بَعْد، فَإِن حَقًّا عَلَى الوَالِی أَلاّ یُغَیّرَه عَلى رَعِیتِه فَضْلٌ نَالَه، وَلاَ طولٌ خُصَّ بِه، وأَنْ یَزِیدَه مَا قَسَم الله لَهُ مِنْ نِعَمِه دُنُوًا من عِبادِه وعَطْفًا عَلى إِخْوانِه"[51].
فالعرفان حقیقة عملیّة، وهو فی هذا السیاق الخاصّ، عمل سیاسیّ یقتضی التجسید الفعلیّ فی مؤسّسات ونظم مدنیّة، وفی ممارسات وتطبیقات الناس. ومن ثمّة لا تبقى حقیقة کلمة "عرفانیّ"، أو "دینیّ"، أو "وحیانیّ"، وما اشتقّ منها أو ارتبط بها، محصورةً فی ما هو غیبیّ روحانیّ معنویّ محضّ؛ بل إنّها تتّسع لیصبح العرفان ذا مدلول یبلوره الاجتماع المدنیّ کلّه، فی السیاسة، والاقتصاد، والثقافة، وغیرها من المجالات، لیکتسب العرفان روحًا جدیدة تستوعب الاجتهاد الإنسانیّ الفکریّ والمادّیّ، بما هو دین ودنیا، وحْی وعقل، روح ومدنیّة، تربیة وحضارة، فیغدو العرفان مدرسة بانیة للإنسان والمجتمع المدنیّ، ومظهرًا عملیًّا للمدرسة الإسلامیّة الأصیلة القائمة على الجمع بین المظهرین المادّیّ والمعنویّ، الدینیّ والدنیویّ، خادمة لمشروع إقامة الحکومة الإلهیّة المنشودة؛ بوصفها -وفق تعبیر الإمام الخمینی- "ظاهرة إلهیّة، یُؤَمِّن العمل بها سعادة أبنائها فی الدنیا والآخرة، بأفضل وجه"[52]. والإسلام على خلاف المدارس غیر التوحیدیة؛ یتدخّل فی جمیع الشؤون الفردیّة والاجتماعیّة، والمادّیّة والمعنویّة، والثقافیّة والسیاسیّة والعسکریّة والاقتصادیّة، ویشرف علیها. وهو لم یهمل أیّ تفصیل؛ ولو کانت صغیرًا جدًّا، طالما أنّ له دخالة فی تربیة الإنسان والمجتمع، وتقدّمه المادّیّ والمعنویّ. وقد نبّه بشدّة على الموانع والمشکلات التی تعترض طریق التکامل فی المجتمع والفرد، وعمل على رفعها[53]. فمعنى العرفان الحقیقیّ یقود دومًا إلى بناء الدولة الإلهیّة، ویسعى إلى تحقیق المجتمع الإسلامیّ الحقیقیّ الذی یجسّد العدالة الإلهیّة ویؤسّس الرحمة والمحبّة بین الناس.
خاتمة:
لقد بدا العرفان فی المدرسة الإسلامیّة؛ مشروطًا بمرجعیّته الإمامیّة، وسیلةً للحفاظ على الرسالة أو التجربة الإسلامیّة، وطریقًا لتحصینها ضدّ متاهات التردّی والانحراف، وهو نهج ومدرسة للحفاظ على "المقیاس العقائدیّ والرسالیّ فی المجتمع الإسلامیّ"[54]، فهو فی حقیقته توجیه ومتابعة تفصیلیّة متواصلة ومستمرّة، یوجّه الإنسان من أجل أنْ یکون فردًا صالحًا فی المجتمع، ویسوقه نحو بناء المجتمع الصالح، استنادًا إلى تعمیق الرسالة فکریًّا وعقدیًّا وسیاسیًّا فی الأمّة نفسها؛ "بغیة إیجاد تحصین کافٍ فی صفوفها، لکی یؤثّر هذا التحصین فی مناعتها، وفی عدم انهیارها"[55].
إنّ العرفان وفق ما سبق یغدو ممارسة، بقدر ما هو سلوک فردیّ واختیار أحادیّ أو لازم، یمثّل حالةً تخلیقیّةً تعبّدیّةً، یؤطّر الفردُ نفسه داخلها. وهو -أیضًا- ممارسة اجتماعیّة نافعة، وفعلٌ تربویٌّ بانٍ یساهم فی بناء المجتمع القویم والمتماسک، وله آثاره الخارجیّة التی تساهم فی نفع الناس، وتحصیل الصلاح العامّ، وترفع لواء الله، والولاء المطلق لأوامره، من أجل علاقة أنموذجیّة بین الناس فی المجتمع، وهو أبرز مظهر من مظاهر الفاعلیّة الاجتماعیّة، فهو ینهض برسالة متعدّدة الأوجه والتجلّیات، تستوعب فی مضمونه، الجانب السیاسیَّ، والاجتماعیَّ، والعلمیَّ، والثقافیَّ، وکلَّ ما یساهم فی إقامة المجتمع، الذی تصان فیه إنسانیّة الإنسان، ویحقّق تکامله المعنویّ. فیکون له دوره الفعّال فی تحسیس الفرد بحقیقة إنسانیّته، وسوقه لإدراک نظام العالم مادّیًّا ومعنویًّا.
[1] باحث فی الفکر الإسلامیّ، من المغرب.
[2] کاریل، ألکسیس: الإنسان ذلک المجهول، تعریب: شفیق أسعد فرید، بیروت، مکتبة المعارف، 1441ه.ق/ 1993م، ص81.
[3] الموسویّ الخمینیّ، روح الله: الجهاد الأکبر أو جهاد النفس، ط6، طهران، مؤسّسة تنظیم ونشر تراث الإمام، 2004، ص9.
[4] الکلینی، محمد بن یعقوب: الکافی، تصحیح وتعلیق: علی أکبر الغفاری، ط5، طهران، دار الکتب الإسلامیّة، 1363هـ.ش، ج1، کتاب فضل العلم، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء، ح1، ص32.
[5] الخمینی، الجهاد الأکبر، م.س، ص233.
[6] بل، ألفرد: الفرق الإسلامیّة فی الشمال الإفریقیّ. من الفتح العربی حتى الیوم، ترجمه عن الفرنسیة: عبد الرحمن بدوی، ط3، بیروت، دار الغرب الإسلامی، 1987م، ص153-154.
[7] السند البحرانی، محمد: إسلام معیة الثقلین لا إسلام منسلخًا عن الحدیث، ط1، قم، منشورات دار التفسیر، 1392هـ.ش، ص32.
[8] العسقلانیّ، ابن حجر: الصواعق المحرقة، خرّج أحادیثه وعلّق حواشیه وقدّم له: عبد الوهاب عبد اللطیف، ط2، القاهرة، مطبعة القاهرة؛ شرکة الطباعة الفنّیّة المتّحدة، 1385هـ.ق/ 1965م، ص126.
[9] الکلینی، الکافی، م.س، ج1، کتاب العقل والجهل، باب اختلاف الحدیث، ح1، ص64.
وهذا ما شهد به عدد غیر قلیل من العلماء وکبار الصحابة الأجلاء، ویکفی أن نذکر من ذلک قول الصحابی الجلیل عبد الله بن مسعود: "إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف، ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن، وإنّ علیّ بن أبی طالب عنده من الظاهر والباطن...". (انظر: السیوطی، أبو بکر: الإتقان فی علوم القرآن، تحقیق: سعید المندوب، ط1، بیروت، دار الفکر، 1416هـ.ق/ 1996م، ج2، ص493).
[10] النیسابوری، أبو عبد الله (الحاکم): المستدرک على الصحیحین، إشراف: یوسف عبد الرحمن المرعشلی، لا ط، بیروت، دار المعرفة، لا ت، ج2، ص448.
[11] السند، إسلام معیة الثقلین، م.س، ص18.
[12] الکلینی، الکافی، م.س، ج4، أبواب الزیارات، باب فضل الزیارات وثوابها، ح2، ص579.
[13] غزاوی، زهیر حسین: الإمام علی بن أبی طالب إنسان للمستقبل (القلب والسیف)، ط1، بیروت، دار الهادی، 1424هـ.ق/ 2003م، ص152.
[14] تبعًا للحدیث المشهور عن الرسول (ص): "أنا مدینة العلم وعلی بابها، فمن أراد العلم؛ فلیأت الباب...". (المجلسی، محمد باقر: بحار الأنوار، تحقیق: یحیى العابدی الزنجانی؛ کاظم الموسوی المیاموی، ط2، بیروت، مؤسّسة الوفاء، 1403هـ.ق/ 1983م، ج38، ص189).
[15] الدرویش، عید: فلسفة التصوّف فی الأدیان، ط1، دمشق، دار الفرقد، 2006م، ص165.
[16] السند البحرانی، محمد: الغلو والفرق الباطنیّة.. رواة المعارف بین الغلاة والمقصّرة، تحریر: حسن الکاشانی؛ مجتبى الأسکن، ط1، منشورات باقیات، 2011م، ص331.
[17] المازندرانی، محمد بن علی (ابن شهر آشوب): مناقب آل أبی طالب (عله)، تصحیح وشرح ومقابلة: لجنة من أساتذة النجف الأشرف، لا ط، النجف الأشرف، المطبعة الحیدریّة، 1376هـ.ق/ 1956م، ج1، ص155.
[18] السند، الغلو والفرق الباطنیّة، م.س، ص43.
[19] الموسویّ الخمینیّ، روح الله: رشحات ملکوتیّة، ط2، بیروت، ، مرکز باء للدراسات، 2008م، ص143.
[20] الخمینیّ، الجهاد الأکبر، م.س، ص10.
[21] انظر: الموسویّ الخمینیّ، روح الله: تفسیر آیة البسملة، ترجمة: عرفان محمود، ط2، بیروت، دار الهادی، 2000م، ص44.
[22] الخمینیّ، تفسیر البسملة، م.س، ص45-46.
[23] سورة البقرة، الآیة 193.
[24] الموسویّ الخمینیّ، روح الله: وصایا عرفانیّة، إعداد: عباس نور الدین، ط1، بیروت، مرکز بقیّة الله، 1998م، ص85.
[25] م.ن، ص84.
[26] یحاول الشیخ الطوسی- کما ینقل عنه الشیخ حسن زاده آملی- أنْ یقرّب إلى الأفهام هذه المراتب مُمثِّلا لها بمراتب معرفة النار؛ فإنّ أدناها من سمع أنّ فی الوجود شیئًا یعدم کلّ شیء یلاقیه، ویظهر أثره فی کلّ شیء یحاذیه، وأیّ شیء أخذ منه لم ینقص منه شیء، ویسمّى ذلک الموجود نارًا، ونظیر هذه المرتبة فی معرفة الله -تعالى- معرفة المقلّدین الذین صدّقوا بالدین من غیر معرفة بالحجّة. وأعلى منها مرتبة من وصل إلیه دخان النّار وعلم أنّه لا بدّ من مؤثّر، فحکم بذات لها أثر هو الدخان، ونظیر هذه المرتبة فی معرفة الله -تعالى- معرفة أهل النظر والاستدلال، الذین حکموا بالبراهین القاطعة على وجود الصانع. وأعلى منها مرتبة من أحسّ بحرارة النار؛ بسبب مجاورتها، وشاهد الموجودات بنورها، وانتفع بذلک الأثر، ونظیر هذه المرتبة فی معرفة الله -تعالى سبحانه- معرفة المؤمنین الخُلّص الذین اطمأنّت قلوبهم بالله وتیقّنوا أنّ {الله نور السماوات والأرض}؛ کما وصف به نفسه. وأعلى منها مرتبة من احترق بالنار بکلّیّته وتلاشى فیها بجملته. ونظیر هذه المرتبة فی معرفة الله -تعالى- معرفة أهل الشهود والفناء فی الله، وهی الدرجة العلیا والمرتبة القصوى. رزقنا الله الوصول إلیها والوقوف علیها بمنّه وکرمه. (انظر: زاده آملی، حسن: السیر إلى الله، ط1، بیروت، دار المحجة البیضاء؛ دار الرسول الأکرم، 2001م، ص22.
[27] شریعتی، علی: الدعاء، ترجمة: سعید علی، ط1، بیروت، دار الأمیر للثقافة والعلوم، 1426ه.ق/ 2006م، ص53.
[28] الخمینیّ، رشحات ملکوتیّة، م.س، ص226-227.
[29] شریعتی، الإمام علی فی محنه الثلاث (محنة التاریخ- محنة التشیّع- محنة الإنسان)، ترجمة: علی الحسینی، ط1، بیروت، دار الأمیر، 2001م، ص158.
[30] الأبطحی، محمد باقر: مقدّمة الصحیفة السجادیّة الجامعة للإمام زین العابدین (ع)، بیروت، دار الصفوة، 1992، ص12.
[31] انظر: الأبطحی، مقدّمة الصحیفة السجادیّة الجامعة للإمام زین العابدین (ع)، م.س، ص13.
[32] عثمان، محمد فتحی: الفکر الإسلامیّ والتطوّر، ط1، تونس، دار البراق للنشر، 1990م، ص186.
[33] الخمینیّ، وصایا عرفانیّة، م.س، ص110.
[34] الخمینیّ، وصایا عرفانیّة، م.س، ص117.
[35] الموسویّ الخمینیّ، روح الله: صحیفة الإمام، ط1، طهران، مؤسّسة تنظیم ونشر تراث الإمام الخمینی (قده)، 1430هـ.ق/ 2009م، ج8، ص6.
[36] الخمینیّ، الجهاد الأکبر، م.س، ص13.
[37] الخمینیّ، الجهاد الأکبر، م.س، ص13.
[38] الخمینیّ، رشحات ملکوتیّة، م.س، ص44.
[39] الخمینیّ، رشحات ملکوتیّة، م.س، ص186.
[40] فضل، عبد الرزاق محمد محمود: فی بلاغة الدعاء النبویّ، منشورات دعوة الحق، العدد181، 1محرم 1418ه.ق/ 8مای 1987م ، ص62.
[41] المجلسیّ، بحار الأنوار، م.س، ج64، ص60.
[42] الطوسی، محمد بن الحسن: مصباح المتهجّد، ط1، بیروت، مؤسّسة فقه الشیعة، 1411هـ.ق/ 1991م، ص592.
[43] الخامنئیّ، علیّ: أنوار الولایة، ط1، بیروت، مرکز بقیّة الله الأعظم، 1999م، ص58.
[44] العلویّ، محمد (الشریف الرضی): نهج البلاغة (الجامع لخطب الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب (ع) ورسائله وحکمه)، شرح: محمد عبده، ط1، مطبعة النهضة؛ دار الذخائر، 1412هـ.ق/ 1370هـ.ش، ج3، وصیّة47، ص76-77.
[45] الصحیفة السجادیّة، م.س، ص166.
[46] انظر:
- الطباطبائیّ، بحر العلوم مهدی بن السید مرتضى: رسالة السیر والسلوک، تعریب: عبد الرحیم مبارک، لا ط، بیروت، دار المحجة البیضاء، لا ت، ص37.
- الطباطبائیّ، محمد حسین: عرفان النفس، جمع وتحقیق: قاسم الهاشمی، ط1، بیروت، مؤسّسة الأعلمیّ للمطبوعات، 1423ه.ق/ 2002م، ص112-153.
[47] الموسویّ الخمینیّ، روح الله: بلسم الروح، ترجمة: حسین کورانی، بیروت، دار التعارف للمطبوعات، 1991م، ص17.
[48] الجابری، محمد عابد: بنیة العقل العربیّ... دراسة تحلیلیة لنظم المعرفة فی الثقافة العربیّة، ط2، المرکز الثقافیّ العربیّ، 1991م، ص 255.
[49] م.ن، ص259.
[50] الموسویّ الخمینیّ، روح الله: الآداب المعنویّة للصلاة، عرّبه عن الفارسیّة وشرحه وعلّق علیه: أحمد الفهری، قم، مؤسّسة دار الکتاب الإسلامیّ، لا ت، ص390.
[51] الشریف الرضی، نهج البلاغة، م.س، ج3، کتاب50، ص79.
[52] الموسویّ الخمینیّ، روح الله: الوصیّة الخالدة، بیروت، نشر مکتب وکلاء الإمام الخمینی، لا ت، ص21.
[53] م.ن، ص22.
[54] الصدر، محمد باقر: أهل البیت (عله).. تنوّع أدوار ووحدة هدف، بیروت، دار التعارف، لا ت، ص144.
[55] الصدر، أهل البیت (عله).. تنوّع أدوار ووحدة هدف، م.س، ص131.